من دفتر الوطن

الحب اللطيف الحميد

| حسن م. يوسف

كلما شاهدت فيلماً جديداً للمخرج الكبير عبد اللطيف عبد الحميد أشعر بغبطة مزدوجة؛ الغبطة الأولى لأن عبد اللطيف ينفخ برقة ودراية على جمر معاناتنا ليجعل أرواحنا البردانة تشع دفئاً وجمالاً وإنسانية، فهو برهافة إحساسه، وأصالة موهبته، وعمق فكره، ينجح المرة تلو الأخرى في إيقاظ البطل النائم في الإنسان العادي، ويحفزه على أن يكون أبهى وأكرم وأرقى وأنبل وأكثر شجاعة. الغبطة الثانية هي أن لي مساهمة غير مباشرة في «نعمة» بقاء عبد اللطيف عبد الحميد بيننا على أرض سوريتنا، فعندما تخرج في معهد (فغيك) السينمائي في موسكو مطلع ثمانينيات القرن الماضي أعطته دمشق وجهها القاسي، وأعطتني شرف التعرف عليه، ولأنني لعبت دوراً في ثنيه عن قرار العودة إلى روسيا للعمل أستاذاً في المعهد الذي تخرج فيه، أفرح لإنجازات عبد اللطيف عبد الحميد، كما لو أن لي حصة فيها.
ميزة عبد اللطيف عبد الحميد أنه أكثر السينمائيين السوريين فهماً لحقيقة أن السينما فن وصناعة وتجارة، وهو بالتالي أكثرهم حرصاً على تحقيق التوازن المطلوب لإنجاز هذه المعادلة، فهو عندما يكتب السيناريو يراعي ظروف الإنتاج، دون أن ينسى لحظة واحدة أن «الفيلم يساوي القصة التي يرويها». وهو لا ينتقل إلى موقع التصوير للتأمل، كما يفعل بعضهم، بل يذهب ومعه سيناريو تنفيذي غاية في الدقة والضبط، وهو في كل مراحل العمل الفني، دقيق ويعرف ماذا يريد.
سر عبد اللطيف عبد الحميد هو أنه يدرك صحة ما قاله غوته في مأساة فاوست: «النظرية رمادية اللون يا صديقي، ولكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد» لذا فهو لا يستعير أفكاره من الورق ولا يلصق الأفكار الكبيرة على وجهه، بل يقول روحه بكل فرادتها وبساطتها وعمقها وتناقضاتها. فهو يبكينا حيناً ويضحكنا على أنفسنا حيناً آخر وليس هناك ما هو أنبل من الضحكة التي تشرق عبر الألم كشمس شتاء تبعث الدفء رغم البرد القارس.
الشكل عند عبد اللطيف عبد الحميد هو الجانب المرئي من المضمون، والمقولة الفكرية عنده تنبثق من خلال كل مكونات العمل لتتدفق في أرواحنا كنبع جبلي ينبثق من بين الصخور نقياً دافقاً رقراقاً.
بعض قصار النظر يتصورون أن مهمة الفن أن يكون مرآة تعكس سطح الواقع وتظهر فقره وقبحه وضحالته. بينما الفن لعبد اللطيف عبد الحميد هو ضرب من التنقيب عن المعادن النفيسة، فهو لا يلغي الإحباطات والمرارات والآلام، بل يضعها في سياقها الطبيعي للوصول إلى ذهب الإبداع.
في فيلمه الجديد «عزف منفرد» يعود عبد اللطيف للحب، موضوعه الأثير الذي يتناوله بطريقة مختلفة. وهو كما في كل مرة، يؤكد لنا أن الحب لا يموت وأن قلب الإنسان الصادق يتسع العالم برمته.
أعترف لكم أن أداء الفنان القدير جرجس جبارة قد هزني بعمق، فقد استطاع باقتدار أن ينفض عن كاهله كل الشخصيات النمطية التي أداها، وأن يقدم نفسه ممثلاً كبيراً، كذلك تألق الفنان فادي صبيح في أداء شخصية طلال، عازف الكونترباص، بإقناع وتمكن، وكعادتها أبدعت النجمة أمل عرفة في أداء شخصية عازفة الكمان التي حولتها الحرب إلى سائقة تكسي. كما استوقفني أداء الشاب ورد عجيب، لكن المفاجأة الحقيقية للفيلم هي النجمة رنا شميس التي تألقت ممثلة في أداء دور زوجة طلال، وعندما امتدحت أداءها المقنع لدور المطربة السابقة أبلغي عبد اللطيف عبد الحميد أنها هي شخصياً من أدت الأغاني الطربية الأصيلة بصوتها ضمن الفيلم! وهذه مفاجأة جميلة حقاً!
أدعوكم أصدقائي لمشاهدة فيلم (عزف منفرد) فهو فيلم سوري بامتياز، يعدكم بدمعة، لكنها لا تحرق بل تنعش القلب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن