ثقافة وفن

لؤي كيالي ورقصة النار

| سماء صبري

أتراها لوحة سريالية لم تكتمل، أم أغنية الموت الذي ألقى بطله إلى حلبة رقصة النار ليحتفي بحتفه… أم هي شفافية روح أنهكتها هموم الأرضين، فآثرت الارتقاء إلى أكوان العلا… هكذا كانت حياة لؤي كيالي الفنان الذي خطت أنامله الصغيرة أولى لوحاته وهو ابن الحادية عشرة، وكانت اللوحة محاولة تجسيد لجده على لوحه الحجري في مدرسته الابتدائية… سرعان ما أخذت تلك الأنامل الخلاقة تخط لوحات عفوية لكبار الفنانين على القماش كبر الفن مع الشاب الصغير واكتشف مدرسوه تلك الموهبة فأضحى يخط الطبيعة الصامتة بصمت أقلام الفحم والرصاص بعيداً عن صخب الألوان وضجيجها.

فيما بعد بدأ لؤي كيالي دراسة أكاديمية للفن، فدرس تاريخ الفن، وطوّر موهبته في الرسم حتى أصبح عدد لوحاته يؤهله ليقيم معرضا، فأقام معرضه الفردي الأول في حلب عام اثنين وخمسين وتسعمئة وألف، وراحت لوحاته تحصد التقدير والجوائز منذ عام خمسة وخمسين، وهو العام الذي فقد فيه لؤي كيالي والدته.
فاز لؤي كيالي في مسابقة وزارة المعارف التي أهلته لدراسة التصوير الزيتي في روما بعد أن كان يدرس الحقوق في الجامعة السورية، حصوله على التقدير والجوائز الفنية رافقه في بعثته الدراسية طالبا، فقد أقام معرضا فرديا في روما ولقي معرضه أصداء إيجابية من كبار النقاد الأوروبيين، تخرج لؤي كيالي في أكاديمية الفنون بروما، فعاد إلى الوطن مغمورا بروح الرضا والنجاح.
عمل بعد عودته في تدريس مادة الفنون في حلب ودمشق، وأقام معارض ناجحة كمعارضه السابقة، وفي غمرة نجاحاته المتلاحقة تقدم إلى مسابقة المعيدين في جامعة دمشق، وشرع يدرس مادة الرسم والزخرفة بكلية الفنون الجميلة.
أنشأ لؤي كيالي في تلك الأيام مرسمه الخاص في دمشق، متابعاً تقديم معارضه الغنية والمتنوعة، فتارة نرى لوحاته تجسد البؤس الإنساني المتجلي بالحزن العميق، وكأن شخوصه المرسومة أبت أن تخرج إلى اللوحات إلا وقد أخذت جزءاً من حزنه المتربع أبدا في أعماقه، وتارة تجسد أنامله لوحات تنطق بجماليات مناطق بلاده من بحر وجبل وأوابد.
اتجهت لوحات كيالي نحو الالتزام الفني الذي يجسد كفاح القضية العربية وكان ذلك في منتصف الستينيات، إذ أقام معرضا بدأه في دمشق وجال به في عدد من المحافظات السورية، وكان يضم ثلاثين لوحة تجسد المعاناة التي تعيشها الشخصية العربية، هذه اللوحات كان قدرها أن تحرق عشية النكسة، وخاصة أنها قد شكلت مادة دسمة للنقد، واتهم لؤي من خلالها بالمزاودة السياسية، فما كان منه إلا أن أضرم النار ليلتهم لظاها لوحاته التي كان يعدها تعبيراً عن معاناة جيل بأكمله.
كانت هذه الحادثة نقطة تحول في حياة لؤي كيالي الصحية والنفسية فسافر مستشفياً إلى بيروت، فجع بعدها برحيل والده فأقر بعجزه عن معاودة التدريس في الجامعة وقدم استقالته، واعتكف.
عاود لؤي كيالي نشاطه الفني بعد اعتكاف شارف على سبع سنوات عجاف في حياته الصحية والفنية، ساعده انتصار حرب ثلاثة وسبعين على تخطي جزء من آلامه فازداد إنتاجه الفني وشارك بمعارض فردية وجماعية، وشهد فترة جديدة من التألق سرعان ما خمدت، وذلك بعد محاولته للاستقرار في روما وعدم تكيفه هناك.
بعد فقدانه الكثير من أصدقائه وشعوره بالوحدة والخذلان، أضحى لؤي كيالي شبحا يعاني من وحدة مريرة تجلت عبر أزمات صحية ونفسية حادة، تحول من عنفوان الفنان الناجح إلى موتى الأحياء، تبدل لؤي كيالي من فنان عالمي إلى أشلاء فنان يعيش على أدوية علها تهدئ من لوعة روحه المنكسرة، كان لؤي يدخن آخر لفافة من تبغه ولم يكن يعلم أن فيها حتفه، لم يكن يعلم أن تلك اللفافة ستودي به إلى رقصة النار الأخيرة، التهمته النار من دون أمر منه، كما التهمت لوحاته بأمر منه ذات يوم بعيد.
أسلم لؤي كيالي الروح في ليلة شتائية في مستشفى حرستا في دمشق سنة 1978، بعد خضوعه للعلاج لما يقارب ثلاثة أشهر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن