قضايا وآراء

«وسوى الروم خلف ظهرك روم»

| عبد المنعم علي عيسى

تلبدت غيوم السياسة على امتداد السماء السورية وفي محيطيها البعيد والقريب في غضون الأيام الماضية، على حين بدا التناوب حاكماً لحركتها لنراها تجتمع زرافات وفرادى تارة، ثم تعود لتفترق تارة أخرى تبعاً لمساراتها الناظمة، وكل ذلك وسط رياح هوج تستعجل، أو هي تنذر، انتهاء «أربعينية» الشتاء السوري، وفي الغضون أخذ البعض يحاول استمطارها اصطناعياً إذا ما تعذر لديه تهطالها طبيعياً على أراضيه، وفي سياقات كهذه تكثر التحولات وكذا المنعرجات، كما وتتكشف الكثير من النيات والخبايا وإن كانت هذي الأخيرة ليس بخافية في معظمها أو هي كانت قائمة تحت الظن.
كان من أبرز التحولات ذات الدلالة ذاك الذي يمكن رصده بين تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في موسكو في الخامس والعشرين من شباط الماضي، والذي أعلن فيه عن وجود مسعى لتشكيل مجموعة عمل دولية جديدة لتطبيع الأوضاع النهائية في سورية، قبل أن يتراجع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن ذلك الطرح في مؤتمر صحفي جمعه إلى جانب نظيره القطري في الدوحة في الرابع من الشهر الجاري قائلاً: إنه لا داعي الآن لتشكيل مجموعة دولية جديدة لكن دون أن يستبعد ظهور مراقبين جدد.
ما بين التصريحين أسبوع واحد، والتراجع له أسبابه وكذا دلالاته، انطلاقاً من الإشكالية التي خلقها الأول، فالأزمة السورية ومنذ خريف العام 2011 كانت قد استولدت العديد من مجموعات العمل العربية والإقليمية والدولية، كان الأبرز منها مجموعة «أصدقاء سورية» التي تأسست بناء على اقتراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي كمحاولة لتشكيل جبهة غربية في مواجهة جبهة صينية روسية كانت قد برزت فور استخدام طرفيها للفيتو المزدوج يوم 4 تشرين الأول 2011 ضد مشروع قرار فرنسي بريطاني يشرعن التدخل في سورية، ثم أعاد خلفه الثاني إيمانويل ماكرون الكرة بالدعوة إلى تشكيل «المجموعة المصغرة» بعد أن خرج أغلبية العدائين من السباق السوري حالما اكتشفوا أنه سباق ماراتون على حين جرى إخبارهم عند نقطة الانطلاق بأنه لا يعدو أن يكون سباق تتابع 400 متر.
في مسرب آخر جرى تأسيس مسار أستانا بفكرة روسية تهدف إلى تفعيل تحولات الميدان السوري، ثم لم تلبث موسكو أن سعت نحو إجراء تقاطعات فيما بين هذا الأخير وبين نظائره الغربية مما مثلته مجموعة الاتصال الرباعية التي تقرأ على أنها محاولة روسية لجر الأوروبيين، ممثلين بالضلعين الفرنسي والألماني، إلى خارج نطاق المجال المغناطيسي الأميركي.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: إذا ما كانت المجموعات الأربع السابقة تحوي كل اللاعبين، باستثناء إسرائيل، الفاعلين على الساحة السورية، فما المستجدات التي تستدعي تشكيل مجموعة أخرى جديدة؟ ثم هل كان ذلك بفعل شطح خيال روسي ذهب نحو حدود أن يكون «للاستثناء» مكان «مشرعن» في التسوية السورية؟ وهو أمر يعني في حال إذا ما كانت الإجابة على التساؤل السابق بنعم أن موسكو تعيش حالة استعداد للدخول في مغامرة خريطة شرق أوسطية جديدة، وما يزيد من هذه المخاوف حال التموضعات التركية الأخيرة التي أخذت توحي بأن أنقرة قد قررت «الفت» خارج الصحن الأميركي مما يمكن تلمسه في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الخميس الماضي التي قال فيها إن على أميركا استعادة أسلحتها التي سلمتها إلى ميليشيا «وحدات الحماية الكردية» وإن لم يكن فتسليمها إلى تركيا، ثم أضاف أن صفقة الـ«إس 400» قد انتهت قبل أن يزيد ويقول إن بلاده تفكر بشراء منظومة «إس 500» في المستقبل، وهذا الكلام لا يعبر عن حالة افتراق تركية أميركية بقدر ما يعبر عن حالة تقارب روسية تركية مدفوعة الأثمان، والتصريحات الأخيرة لم تعد تقبع في وضعية استفزاز الأميركيين وإنما تجاوزتها إلى وضعية تحصيل لفواتير روسية.
هذه المخاوف مشروعة ولها ما يبررها وإلا فكيف يمكن تفسير سعي أنقرة الحثيث نحو حركة تجنيس باتت متنامية في صفوف اللاجئين السوريين على أراضيها حيث تقول آخر التقارير إنهم تجاوزوا الـ80 ألفاً، وهذه لا تعدو أن تكون محاولة جديدة لاستنساخ سيناريو العام 1939 الذي أفضى إلى سلخ لواء اسكندرون، وهي تهدف إلى الدفع بهؤلاء نحو «المنطقة الآمنة» المزمع إنشاؤها تمهيداً للمطالبة بإجراء استفتاء أممي يفضي إلى عملية قضم جغرافية جديدة، فالتقارير تلك تشير إلى أن أنقرة وفي ظل مواجهتها لصعوبات في نقل هؤلاء ناجمة عن عدم وجود رغبة لديهم في الإقدام على عمل من هذا النوع بعدما استقرت أوضاعهم، تعمد إلى تقديم إغراءات لهم تتمثل بتوفير فرص عمل بإيرادات مرتفعة ووعود ببنى تحتية محفزة، والشاهد أن بيان جماعة الإخوان المسلمين السوري الصادر في اليوم الأخير من شهر شباط الماضي لم يكن يشكل إلا غطاءً سياسياً للعملية السابقة الذكر، فهو يصف تركيا بـ«الجار التاريخي والجيوسياسي»، كما ويطالب بإشرافها على المنطقة الآمنة بما يتيح لها «ضمان حقوق مواطنيها ومستقبل أمنها القومي والمجتمعي»، والجملة الأخيرة كافية للقول إننا أمام حالة انسلاخ وطنية صارخة، وهي تتعدى بكثير دعوات التدخل العسكري الخارجي التي ما انفكت الجماعة تعزف عليها منذ أكثر من سبع سنوات، فأن يرى تيار أو شريحة أحقية بلد مجاور في وضع يده على رقعه جغرافية من بلاده بذريعة أن ذلك يشكل ضرورة لأمنه، أي لأمن البلد المجاور، القومي والمجتمعي، فهذا يندرج بالتأكيد تحت مسمى واحد هو الخيانة الوطنية العظمى، فكيف الأمر إذا ما كان ذلك البلد لا يزال يحتل مساحة تزيد على خمسة آلاف كيلو متر مربع من التراب الوطني الذي يفترض لتلك الشريحة انتماؤها إليه، يضاف إلى ذلك أن هذا الجار هو الذي استعمرنا لأربعة قرون لم يترك لنا فيها من إرث ثقافي سوى «الخازوق» و«الطربوش».
في هذا السياق يمكن النظر إلى هجوم فصيل «أنصار التوحيد» على مواقع الجيش السوري في ريف حماة الشمالي منذ فجر الثالث من آذار الجاري فصاعداً على أنه محاولة لحث الجيش على الإسراع بعمل عسكري يهدف من خلالها إلى إعادة إدلب إلى الحضن السوري، فالفصيل المذكور منضو في إطار غرفة عمليات «وحرض المؤمنين» التي تأسست في تشرين الأول الماضي كردة فعل على اتفاق سوتشي الموقع في أيلول الماضي والذي أفضى إلى المنطقة المنزوعة السلاح في إدلب، صحيح أن أنقرة هي من الموقعين عليها إلا أن الصحيح أيضاً هو أن غرفة العمليات السابقة الذكر لم تتشكل إلا لتكون ذراعاً ميدانية بيد أنقرة تحركها متى تشاء لقلب الموازين على الأرض عندما تتعثر المرامي على طاولة المفاوضات، أما لماذا استعجال عمل عسكري للجيش السوري فالهدف من ورائه أن يؤدي عمل كهذا إلى حركة نزوح كبيرة من منطقة العمليات باتجاه الداخل التركي، وبعكس ما يشاع من أن أنقرة تخشاها فإنها اليوم تريدها وما التقارير التي تشير إلى نشر الجيش التركي لوحداته على الحدود السورية إلا تأكيد على ذلك، والنشر هنا يهدف إلى منع دخول اللاجئين الجدد إلى الأراضي التركية والعمل على إبقائهم في المنطقة الآمنة المزعومة انطلاقاً من أن الـ80 ألف مجنس، على فرض توجههم جميعهم إليها، لن يشكلوا ثقلاً ديموغرافياً وازناً قادراً على حمل أعباء الخطة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن