ثقافة وفن

لا عزاء للفن .. العبيد عميد التشكيليين يُدفن في«نجها» بحضور سبعة أشخاص فقط … مخول لـ«الوطن»: لوحة «العبيد» لم تدخل بيوت الأثرياء

| سوسن صيداوي

شهدت سورية في اليومين الماضيين، وداع عميد الفنانين التشكيليين السوريين، ولكن ضمن هدوء وسكون تامين، لقد غادرنا إنسان رفض المتاجرة بفنه من وسيطين غايتهم فقط الربح، بعيداً من القيمة الفنية للعمل المبيع، رجل احتفظ ببساطته، لم يبعد نظارته الشمسية ذات العدستين السوداوين عن عينيه، ربما لأنه لم يرغب في رؤية سواد النفوس وشرورها، لهذا اكتفى معانقاً فنه عبر سني عمره المديدة، كطفل يبادله كل الحب والعطاء، مبتعداً من العداوات في الوسط الفني، مكتفياً بجهده مع رفقة ألوانه وريشته، وشخوص رسخها لفنه الذي استمر لأكثر من ثمانين عاماً، كي تقول اللوحات لكل العالم: انظروا نحن السوريين. نعم لقد غطى الثرى جثمان الفنان التشكيلي ناجي العبيد، في «نجها» رافقه لمثواه الأخير سبعة أشخاص فقط، تركوه وتركناه، كي يعيش عزلته الروحية الأبدية، بعد أن عاش عزلته الأرضية. غادرنا وهو متمسك بحب سوريته، وبحب الجميع، مع أمل وإيمان قويين بأن تعود سورية أحسن من قبل، وأن يحب الجميع بعضهم.
إذاً يا أعزاء رحل الفنان التشكيلي ناجي العبيد، بعد صراع طويل مع أمراض الكهولة. واليوم يتذكره بعض الأصدقاء بكلمة وداع.

من المقرّبين الأصدقاء

من أكثر الفنانين التشكيليين قرباً للفقيد كان الفنان التشكيلي موفق مخول، الذي بقي يزوره أثناء مرضه وحتى كان من الفنانين المشاركين في تأبينه، وعن هذه الخسارة باح لنا عن مكنونات قلبه قائلاً: بالطبع الفنان ناجي العبيد ذاكرة وطنية استمرت لحوالي الثمانين عاماً من الفن السوري الأصيل والعطاء، نحن ندين له بكل الحب والتقدير، لقد كان فناناً مسالماً في الوسط ومتسامحاً للغاية، وشخصاً جميلاً على الصعيد الإنساني كما الفني، لقد كان فناناً وطنياً بامتياز، ثمانون عاماً قضاها في العطاء للحركة التشكيلية الفنية، بعد أن قدم لنا لوحة سورية». وعلى الصعيد الشخصي أشاد الفنان بالصداقة القوية التي ربطته بالراحل وكيف تمتّنت في الفترة الأخيرة متابعاً: «لقد شعرت بمدى الحب الكبير والإنسانية اللامحدودة التي في داخله، على الرغم من الظرف القاسي الذي كان يعانيه في مرض الكهولة، والظرف الموجع أكثر بما حلّ ببلدنا، لكوننا اليوم نبحث عن الأخلاق قبل الفن، ونبحث عن الحب قبل الفن والإبداع، وهذا ما كان يملكه ناجي العبيد ويفتقره الكثيرون».
وعن المسيرة الفنية الطويلة التي لا يمكن إيجازها يضيف مخول: «لم يكن ضمن طموحات فقيدنا في إثبات نفسه عبر فنه، أي تحدّ للآخر، بل كان يحب الآخر من خلال الفن، فمرسمه في سوق المهن اليدوية، يمثل تاريخاً وذكريات للكثير من الشباب والشابات من الفنانين الذين مرّوا وتعلموا منه، من دون أن يبخل بأي عطاء، وعلى فكرة الكثير من السوريين لا يعرفون الفن التشكيلي إلا من خلال أعمال الفنان ناجي العبيد، لقد كان قريباً من الشارع السوري، وهذا ما نفتقده لكوننا بحاجة للفنون الشعبية والجماهيرية والفنون الفطرية، هو يملك هذه المقومات، وبالإضافة إليها بساطته التي مكّنته من أن يكون معروفاً وجماهيرياً، وبالتالي استطاع أن يقدم لنا أعمالاً تشبه السوريين، لكونه لم يتأثر بالغرب كثيراً ولم يهتم بمدارسهم، بل كان اهتمامه بالتاريخ السوري وبالمرأة السورية، وبالعيون السورية، إضافة لاهتمامه بالخط العربي والزخرفة». كما أشار الفنان خلال حديثه إلى أن العبيد كان رقمه في نقابة الفنانين (4) وعن تفاصيل أخرى يضيف: «صحيح أن عمر ناجي العبيد مئة وعامان تقريباً لكن عمره الفني ثمانون عاماً، لم يضيّع وقته، بل بقي لآخر أيامه يرسم، وعطاؤه كان لكل من يستطيع، بمعنى أنه لم يبخل برسم وإهداء أعماله أبداً، إنتاجه غزير فلديه آلاف اللوحات، كان إنساناً رحيماً على إخوانه وحتى على الحيوانات، فمثلاً لقد كان يهتم ويرعى القطط ويطعمها، وهذا الأمر سبب استياء العديد من أصحاب المحال على طول الطريق الواصل من بيت الراحل من منطقة الشعلان بدمشق، إلى سوق المهن اليدوية».

وأخيراً باح لنا الفنان التشكيلي موفق مخول بمكنونات قلبه وعن حزنه البالغ بهذه الخسارة، مؤكداً أن الحزن غير مهم، بل الأهم هو التفكير جدياً بالحفاظ على ذكرى الفنان ناجي العبيد وغيره من الأسماء المهمة في الحركة الثقافية بتذكرها بشكل دائم قائلاً: «على صعيد شخصي أشكر اللـه أنه منحني الفرصة كي أعبّر شخصياً عن محبتي وتقديري للفنان الراحل عبر عملي في وزارة التربية في تأليف الكتب، حيث تمكنت من وضع صفحتين للفنان ناجي العبيد كي يعرف أطفالنا الصغار هذا الفنان الجميل، من خلال درس رائع عن الفنون البصرية، وهنا أناشد زملائي الفنانين التشكيليين وأطالبهم بأن نتكاتف معاً ونساند بعضنا في السراء والضراء، كي نُغني الفنون التي نقدمها أكثر، من جهة ومن أخرى كي يذكرنا المجتمع السوري الذي لا يفطن لنا أو يتذكرنا، بعكس الجمال الذي نشعر به ونسعى دائماً بالفن إلى ترسيخه ونشره. وللأسف في يوم تأبين الفنان ناجي العبيد، لم نكن سوى أربعة أشخاص، إضافة لابنه وزوجته، لا يمكننا أن نلوم الزملاء الفنانين، ربما لم يكن لديهم العلم بيوم الدفن، لكونه تمّ بشكل سريع، ولكن عدم حضور الأشخاص لا يعني أن الناس لا تحبه، ولكن ما أحب أن ألفت النظر إليه، بأننا في مجتمعنا السوري وبسبب ظروف الأزمة وتداعياتها وكل آثارها، قررنا أن نحب وألا نبادر بالتعبير عن هذا الحب بأي تصرف محسوس، لذلك لا يمكننا أن نلوم بعضنا، ولكن فقيدنا استطاع أن يربي صداقات، وهو الفنان التشكيلي السوري الوحيد الذي ليس لديه أي عدو، وعلاقته بالفن وتعاطيه كتعامله مع طفل صغير، ليس نداً أو تحدياً، حتى لوحاته عكست روحه ولطفه اللامحدود. هناك من انتقد فن الراحل في فترة من الفترات بزمن الصالات الخاصة وبيع اللوحات فلم يأخذ حقه، والمشكلة في زمننا هذا أننا نلحق المشهورين فقط، ولا نسعى للتجارب المخبأة والموجودة في الظل، وأشدد هنا-وفي حالة فقيدنا- بأننا لا نرسخ مشروعاً ثقافياً، بل مشروع الحركة التشكيلية هو مادي بحت، لذلك لوحة الفنان ناجي العبيد لم تدخل بيوت الأثرياء، بل بقيت موجودة في سوق المهن اليدوية وفي المعارض المشتركة. نعم لقد ظُلم، وهنا نطرح سؤالاً: ثمانون عاماً ألا تكفينا لنقول بأنه فنان حقيقي، ومن البدايات.

إنه خسارة كبيرة وأنا حزين جداً عليه، لقد دفناه في «نجها»، لقد دفنا معه ثمانين عاماً من الحب والعطاء والفن، وهو سيعيش حتى في قبره غربة كبيرة، لأنه يستحق التكريم وبأن يبقى قريباً من الناس وبأن يزوره كل مهتم. لقد ودعنا الكثير من الفنانين، وللأسف حتى اليوم لا نهتم بذكراهم أو بزيارتهم، وهذه مأساة كبيرة، وأخيراً أتمنى أن نرسخ يوماً لزيارة الفنانين التشكيليين والشعراء والأدباء، كي لا ننساهم. الرحمة للفنان ناجي العبيد، الفنان الحقيقي والسوري بامتياز، وداعاً أيها الصديق والمحب، لقد بحت لكم بكل ما في قلبي تُجاه ناجي العبيد».

من آخر حوار

تحت عنوان «لسورية العظيمة حلو الكلام» وفي حوارنا مع الراحل الذي تمّ نشره في تاريخ 24/9/2018، وعندما طلبت منه أن يقول كلمة لسورية، عيون الفنان العبيد مع تعابير وجهه كلّها ضحكت كما قلبه وقال: «لطالما كانت وستبقى سورية متميزة عن كل البلدان العربية والأجنبية لعطاءاتها اللامحدودة، بل سورية هي جوهرة الوطن العربي. أنا ابن سورية، وللأسف قلّة من المواطنين السوريين يسعون لاقتناء اللوحات التشكيلية ويسعون لشرائها، الأمر الذي عكس سلباً على حياتي المعيشية، وخاصة أنني أغار على أعمالي، وأرفض أن تباع لمن هو معاد لبلدي بالدرجة الأولى وغير مهتم بالفن التشكيلي السوري -بالدرجة الثانية- مهما كان المبلغ باهظاً. للأسف الشديد المحبة لسورية دخلت فيها المصلحة والمكاسب، وأشياء أخرى كثيرة، نحن نحارب وسط معركة صعبة، وعلى قدر تكاتف بعضنا مع بعضٍ على قدر ما شكلّنا صموداً قوياً كي نستطيع إيقاف الاعتداءات.
في سورية طاقات هائلة في المجالات كافة، سورية متكاملة تقريباً، إنني آمل لسورية المجد الحقيقي والتخطيط الصحيح والعلمي الذي يفيد الشعب وقيادته، وعندي إيمان بأن تعود سورية علماً فاعلاً من أعلام الأمة العربية، وأدعو كل الشباب والمعنيين إلى ألا يستغلوا أخطاء غيرهم سواء أكانت مقصودة أم عفوية، وأن يحبوا سورية فهي جديرة وتستحق هذا الحب».

من إشارة لمقال

عبّر الناقد سعد القاسم عن بالغ حزنه برحيل الفنان التشكيلي ناجي العبيد، ولأن الوقت لم يساعدنا وكان ضيقاً، أشار الناقد القاسم إلى مقال للفنان بطرس المعري (إنّ المقالة تقول كل ما يمكنني قوله، وأرجو أن تكون مفيدة)، منها نقدّم لكم بداية: «يمثّل الفنان السوري محمد ناجي العبيد فئة من الفنانين نصفهم بأنهم «فنانون شعبيون حديثون». ويستلهم هؤلاء، الذين اكتسبوا تأهيلاً أكاديمياً أو خبرة احترافية في مجال الفن، مواضيع أعمالهم من مختلف جوانب أو مظاهر الحياة في الأحياء القديمة من المدن أو الأرياف والبوادي. وهم يميلون دائماً نحو الرسم الزخرفي الفولكلوري، ونحو التصوير الشعبي». وعن أسلوب الراحل يضيف المعري: «يمارس العبيد فن التصوير الزيتي، ويميل أسلوبه حيناً إلى التكعيبية، وحيناً إلى الرمزية وأحياناً إلى الواقعية بأسلوب أقرب إلى الأعمال الشعبية وأحياناً ينسخ أو يستلهم من اللوحات الاستشراقية. وتُحدّ أعماله ببضعة مواضيع، أكثرها شيوعاً وخصوصيةً هو لصورة وجه أنثوي يرتاح على خلفية تشتمل على أشياء مما يستعمله البدو أو سكان القرى أو على زخارف هندسية.
ويلغي الفنان البعد الثالث فيسطح العناصر ويحيطها بخط أسود، كما يلجأ أحياناً إلى الخط العربي ليغني لوحته، ويصوّر أحياناً الأيقونات المسيحية أو يخط أقوالاً وجملاً يستقيها من الكتب الدينية ومن أقوال الشعراء. ويتباهى العبيد بأنه «اختصاصي» الرسم على الزجاج لعنترة وعبلة».

من المسيرة

• ولد محمد ناجي العبيد في دير الزور عام 1918 لعائلة يعود نسبها إلى قبيلة شمر المعروفة، التي هربت من شبه الجزيرة مع غيرها بمجيء آل سعود إلى الحكم.
• بدأ الفنان بالرسم مبكراً في سن السابعة، لكن اهتماماته الأخرى جعلته يلتحق بسلك الشرطة الجنائية في الأربعينيات في حلب، ومن ثم جاء إلى دمشق بعد الاستقلال عام 1946 ليلتحق بالأركان.
• خلال فترة الجمهورية العربية المتحدة، أقام في مصر لدراسة الصحافة والفن في القاهرة نحو عام 1958.
• عند عودته إلى دمشق، درّس الفن في ثانوياتها كما أصبح رسّام كتب وخطاطاً، لكن هذه التجربة تعود إلى ما قبل هذه الفترة وتحديداً إلى سنة 1952، عندما عمل في جرائد يومية ومجلات منها مجلة (الجندي).
• شارك في أوائل المعارض السنوية التي بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي.
• مرسمه الخاص في سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية – دمشق، حيث زاره العشرات يومياً ليستمتعوا بأعماله.
• يعتبر ناجي العبيد من مؤسسي نقابة الفنانين ورقم عضويته فيها (4).
• حصل على الميدالية الذهبية مع شهادة تقدير من القائد الراحل حافظ الأسد ونقابة الفنون.
• باع أول لوحة من أعماله للمكتبة الفرنسية بباريس واشترى بثمنها منزله في حي الشعلان بدمشق، الذي بات حتى يومنا هذا مكتبة فنية تضم أكثر من خمسة آلاف لوحة موزعة في كل غرفه وممراته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن