قضايا وآراء

حمى اللـه الجزائر

| عبد المنعم علي عيسى

برز عشية إعلان المجلس الدستوري عن إعلان أسماء المرشحين المقبولين لخوض الانتخابات التي كانت مقررة في الثامن عشر من نيسان المقبل في الجزائر معطيان مهمان أولاهما الدعوة التي أطلقتها فعاليات سياسية واقتصادية إلى عصيان مدني احتجاجاً على «العهدة الخامسة»، وعلى الرغم من أنها لم تلق صدى مخيفاً في الأوساط الموجهة إليها إلا أن ثمة ما أثار الخشية في غرف صناعة القرار الجزائرية الأمر الذي استدعى صدور بيان الرئاسة الذي أعلن فيه عن تأجيل الانتخابات على أن لا يكون الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مرشحاً فيها عند حدوثها، ما عنى دخول البلاد في مرحلة انتقالية بحكومة انتقالية كلف لها نور الدين البدوي بعد استقالة أحمد أويحيى التي استبقت صدور بيان الرئاسة سابق الذكر بساعتين.
تمكنت الجزائر مع بوتفليقة من توقي خطر حرائق الجوار البادئ في كانون الأول 2010 بفعل بحبوحة اقتصادية ساعدت فيها حالة انتعاش أسواق النفط، ثم بفعل عامل آخر يغوص في ذاتها الجماعية التي لا بد وأنها استحضرت لحظة اشتعال «بوعزيزي» تونس مرارة «العشرية السوداء» التي لم يكن قد مضى عليها سوى عقد ونيف من الزمن.
مرت الجزائر منذ استقلالها عام 1962 بأربع مراحل كبرى تركت كل منها ندبه في النسيج المجتمعي الجزائري، الأولى كانت مع الرئيس أحمد بن بلا (1962-1965) والتي يمكن توصيفها بمرحلة حلم الثورة الدائمة القائمة على «طهرية» ثورية لم يستطع بن بلا في أتونها أن يفهم كيف يمكن لـ«علي لابوانت» فتوة حي القصبة الشعبي الشهير الذي لعب دوراً بارزاً في الثورة الجزائرية أن ينغرس عميقاً في الذات الجزائرية فذاك يجب أن يكون فقط من حق الثوار على النمط التشيغيفاري فحسب، الأمر الذي أدى إلى الإطاحة به من خلال الثالوث: هواري بومدين والطاهر الزبيري وعبد العزيز بوتفليقة، بزعامة الأول، لتدخل البلاد مرحلتها الثانية التي أسست لمرحلة بناء الدولة وتحديد هويتها، وفيها شهدت الجزائر حركة تعريب واسعة تعدتها إلى خارج حدودها، حيث سيصبح بومدين أول المتحدثين باللغة العربية من على منبر الأمم المتحدة، بل وسيذهب الأخير إلى حدود فرضها لغة رسمية على ذلك المنبر، والثابت هو أن الأخير أيضاً كان قد نجح في إرساء عقد اجتماعي جديد مبني على توازن السلطة المجتمع، قبل أن يغيبه الموت في عام 1979 لتدخل البلاد مرحلتها الثالثة مع الرئيس الشاذلي بن جديد بحال من الاضطراب بادية وإن لم تكن ملحوظة في العلن إلا أنها كانت كذلك في أوساط دوائر السياسة ذات الاهتمام، وهو ما دفع بميشال جوبير وزير خارجية الرئيس الفرنسي السابق جورج بومبيدو، وكذا كان وزيراً في حكومة فرنسوا ميتران، إلى تحدي السفير الفرنسي في الجزائر إذا ما كان يستطيع تحديد من الذي يحكم هذي الأخيرة الآن في محاضرة له ألقاها بباريس عام 1981، كان اضطراب الحبل يغز خطاه حثيثاً نحو حال الفوضى العارمة التي بدأت عام 1989 لتستمر عقداً ونيف من الزمن ولتبدأ ملامحها بالتلاشي مع وصول بوتفليقة إلى السلطة في عام 1999، والشاهد هو أن هذا الأخير كان قد ورث عن المرحلة السابقة ثقلاً راجحاً للمؤسسة العسكرية التي وإن كانت قد استطاعت كبح جماح المد الإسلامي الأصولي إلا أنها أحكمت قبضتها على كامل مفاصل الدولة والمجتمع، الأمر الذي دفعه نحو العمل على التخفيف من تلك الحالة الضاغطة وإن لم يكن ذلك بحل استئصالي وإنما كان عبر إحداث حال من التوازن داخل المؤسستين العسكرية والأمنية على حد سواء، ولربما كان نجاحه في ذاك سبباً رئيسياً لاستمرار عهده على امتداد العقدين الماضيين، على الرغم من أنه، أي عهد بوتفليقة، لم يخل من محاولات الإخلال به مما يحفل بها كتاب «الجزائر إلى أين»؟ للكاتب الجزائري محمد سيفاوي المقرب من الاستخبارات الفرنسية.
أصيب عهد بوتفليقة بانتكاسة بعد إصابته بجلطه دماغيه في عام 2013 الأمر الذي شكل حافزاً للحالمين بالانقضاض عليه، إلا أنه استطاع مراقبة أدق التوازنات في الهرم التي اعتبرها عاملاً رادعاً وكافياً لمنع هؤلاء من الإقدام على القفزة الأخيرة، مما يمكن تلمسه حتى في اللحظات الأخيرة التي ترافقت مع ذروة الغليان عبر إقالته لمدير الأمن الوطني مصطفى لهبيري منتصف شهر شباط الماضي فقد استطاع هذا الأخير كما يبدو نسج ميكانيزم سريع ومخل بالتوازن مع رئيس الأركان أحمد قايد صالح في خلال أقل من ثمانية أشهر قضاها في منصبه.
من الناحية العملية فإن ما ساعد في تماسك هرم السلطة في أتون العاصفة الراهنة يكمن في توازن قواها من النوع عالي الدقة، فالمؤسسة العسكرية التي تعتبر الرحم الذي يمكن أن يخرج منه أي تحول سياسي محتمل في البلاد ظلت محافظة على حال من الستاتيكو الرادع للمغامرات، ورجلها الأقوى أحمد قايد صالح بدا أذكى من أن يقدم على عمل من هذا النوع، فمؤسسته التي يقودها تقوم، كما قدر الطهي، على أرجل ثلاث يمسك هو بإحداها فيما يمسك الجنرال بشير طرطاق رئيس الاستخبارات العسكرية والمقرب من سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس بالثانية، أما الثالثة فتعود لجماعة الجنرال السابق محمد الأمين الذي كان يوصف فيما سبق بالحاكم الظل أو صانع الرؤساء، وهذي الأخيرة لن تدعم أي تحول سوف لا يكون لمصلحة أحد أفرادها، أو أنه من الصعب عليها أن تدفع بنفسها نحو التهميش الذي ستجد حالها عليه إذا ما انحازت إلى صالح الذي سيصبح حينها رجل البلاد القوي، هناك بعد إقليمي- دولي رادع لمغامرة مفترضه لهذا الأخير، أي لقايد صالح، هو أنه غير مرغوب فرنسياً وهو ما ظهر جلياً بتصريح وزير الخارجية الفرنسي جان ايف دوريان قبل أيام حين قال: «يجب ترك العملية الانتخابية تأخذ مجراها في الجزائر وهو بلد ذو سيادة» على حين أن الأمر كان مختلفاً تماماً مع ليبيا آذار من عام 2011، وهو ليس مرغوباً للمغاربة أيضاً، وكلاهما شديدو الالتصاق بأي تحولات يمكن أن تشهدها الجزائر، بل وحتى قربه من موسكو يمثل هنا عبئاً عليه لا عامل قوة له، فوصول رجل مرغوب من روسيا إلى قصر المرادية اليوم يبدو أمراً لا تحتمله حقائق التوازنات القائمة في الشمال الإفريقي.
بعيد الإعلان عن تأجيل انتخابات الرئاسة لا يبدو أن الفعل قد نجح في إعادة النار إلى بيتها فـ«الأميمي» لا يزال حاضراً وهو على رأس عمله، مما تمظهر في شعار «لا للتمديد للعهدة الرابعة»، وإلى الآن فإن أي تحول سياسي يمكن أن يحدث سيكون محصوراً في دوائر السلطة لكن الخشية أن يستطيع تمدد الحريق سحب البساط من تحت أقدام القاعدة سابقة الذكر، أما طول أمده فإنه قد يوقظ صراعاً عرقياً عارماً في الجنوب إذا ما ارتأى الطوارق قوة السلطة المركزية وهي تنهار، ومن المفيد هنا تذكر أن ناقوس الخطر كان قد دق في هذا السياق لعدة مرات كان أشهرها في التظاهرة التي شهدتها مدينة «ورقلة» في آذار 2015 التي أطلقت على القادمين من الشمال الجزائري اسم «الغرباء» والتي قيل في حينها أنها لا تضاهيها سوى تظاهرة شباط من عام 1962 التي قامت دعماً من الجنوبيين للثوار الجزائريين في مواجهة مناورات شارل ديغول الرامية إلى الإبقاء على احتلال الجزائر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن