ثقافة وفن

شكٌّ أقرب إلى اليقين

د. نبيل طعمة : 

الذاكرة تخون لحظة أن تخفي أسراراً، لا تريد أن تستحضرها إلى الأمام، ترمينا ضمن متاهات، قلنا: لم نقل فعلنا، لم نفعل، تدعنا في حالة توهان، وكأنّ بها تريد عكس عنواننا، في حالة تخبط فكري، أي أن تضعنا على حافة الهاوية، تتركنا نبحث عن يقين يملؤه الشك، حينما نجتازه، نختلي بأنفسنا، تأخذنا لبرهة في رحلة تأمل نادرة، نريد منها تركيزاً على موضوع ما، وليكن استعراض مرحلة حياتية، عبثت بها رياح أزمة كبرى، خلخلت العقل، وخلطت أوراق الانتظام في كهف الأسرار الذي يدعونا لاسترجاعها، وإعادة ترتيبها، وتوحيد الرأي حولها، كي يغدو قوياً، فلا صدى للمفرد صاحب الرأي الضعيف، إنما للمجموع مالك الرأي القاهر، والصوت الهادر، والحضور الغالب، مثلث اللا شعور المسكونة فيه مجموعة المعارف التي تتكون من العلاقات الحياتية الظاهرة في الإنسان الآخر، والعلاقة مع الحيوان، وظروف نشأة النبات، ومجموعة العلوم التي تختص بها نظم الدراسات، تأخذنا إلى الاختراق والإبداع والتطبيق، ومجموعة المفاهيم الروحية التي تذهب بنا لاعتناق دين من بين الأديان بالفطرة، أو التطلّع عليه، ومن ثمّ التعلق بمذهب من مذاهبه، أو طائفة من طوائفه، وفهم مضمونها مع رحلة التكوين.
الإشكال الخطِر يحدث عندما نتعلق بها، وننحصر بأناها، عندها تختلط الأمور الثلاثة، وتختفي من كل مجموعة، كل تلك الأفكار النبيلة التي كانت ممتلئة بالفضيلة والقيم الأخلاقية الأصيلة، ويحل محلها نظام الخداع البصري، الذي يسكنه مشروع رهيب، ألا وهو التكاذب الخطِر مع تزوير الواقع وبهتان الحجج.
كل هذا الذي قدمت، يجعلنا ندور في فلك الشك والريبة أثناء تعاملنا مع كل شيء؛ فهل نتوقف محللين ما نحن فيه وعليه؟ تعالوا نمسك به من أي جهة تنشدون، ولنجمع عليه، لغاية الوصول إلى اليقين، وكي لا نستسلم للشك، علينا البقاء في دائرته، إلى أن نخرج منه، مهما كانت الحقائق التي نمرّ منها مرة، أو صعبة قاسية، لأنه على الرغم من أهمية وجوده في عقلنا الباطن والظاهر على أحوال حركتنا ولغتنا وتصرفاتنا، حين الدخول عليه، إلا أنه يدعونا للاعتراف بقيمة وقوة وجوده، من خلال تلاعبه بأفكارنا، حيث يجعلنا نقوم بأفعال غير مدركة، أو التحدث بكلمات لا منطق فيها، تحطم نظم التحكم الوجودي كافة، وتتلاعب بالمبادئ الأخلاقية، ما تثير المشاحنات والأحقاد، وتظهر الجميع إلحاديين كافرين بالواقع، وماديين بالأهداف، وهذا ما يهدف إليه أسلوب الشك والسير على سبله، من أجل أن يصل الجميع إلى الإيمان، بأن هناك إنساناً وإلهاً، تداخلا ببعضهما، فلا الأول استجاب لتعاليم الإله، ولا الثاني اقتنع بأنَّ الخلل الحياتي من صناعة الإنسان، فسأل فكره، كما سأل موسى إلهه قائلاً: إن هي إلا فعلتك، وغاية وجودهما شكل ثنائية إعمار الأرض، والإيمان بالحياة، وفي الوقت ذاته، أحدثا الشك الهائل بينهما، بعدما لبس إنسانه الديني القلائد، وذهب لنهب إنسانية الإنسان، لغاية استعباده دينياً ودنيوياً، ما أدى لانتشار الغطاء الديني الذي اعتبر من أفضل الأقنعة التي تسهم في سرقة الشعوب المتخلفة، وتزيد من تخلفها، والشك وحده بها يؤدي إلى كشفها، إنها حقيقة الصراع القائم في عالمنا المعاصر، وماهي إلا حالة تعبيرية عن آليات الصراع الأزلي، بين قوة الخير والشر، بين الغني والفقير، بين عالم الشمال وعالم الجنوب، بين الديني والديني اللعوب، بين المؤمن الواقعي والديني التمثيلي، فظهرت معركة الشك التي ينبغي أن نخوضها، ونخترق بها إيماننا الضعيف والهزيل والفقير، من أجل الانتقال إلى الواقع، نخترق به المظهر البرّاق، إلى الجوهر التافه، كي نُحلَّ محلَّه إيماناً حقيقياً، يأخذ بنا إلى الإيمان بالحياة، والتفكير بالعملية الكونية، بطرق علمية، وإنَّ علينا العمل الحثيث والدؤوب في العلم، والاستثمار في محاوره؛ فهل ندرك حقيقة واقعنا المرير؟ وكأنَّ خبزنا لا ملح فيه، خبزنا كفافنا الذي نؤمن فيه، ولا نؤمن بالآخر، نأكله من دون أن نتطلع إلى من يشاركنا فيه، ذاك الذي يقف بجانبنا، يطعمنا إياه الإله، فنخونه، كلٌّ بطريقته، ومن ثمَّ أنفسنا، وبعدها نخون جميعنا.
أن يخامَرنا الشك في إخلاصنا لإنسانيتنا، يجب أن يعني لنا، أننا أصبحنا خطراً على أنفسنا أولاً. وثانياً على ما نؤمن به في محيطنا، وما يجري معنا تشير نتائجه إلى أننا دخلنا في دوائر الفساد واليأس والكراهية، وابتعدنا عن الصبر المرتبط بإيجابيات النتائج المادية واللامادية؛ فأين نحن من عقائد تنعم بها المجتمعات الأخرى، قائمة على التعاطف والتآلف والأمل، وبناء روح المحبة؟ أي أين نحن من المبادئ الأخلاقية التي أسست عليها الأديان السماوية؟ أم إنها حصرتها ضمن مثلثها، وأخذت أضلاعها تجلدنا بها، ليتوه المتعلقون بها، بين الحلال والحرام، بين الصح والخطأ، بين الفساد والإفساد والمفسدين في الأرض، يختلط الجميع كما يحصل بين الحابل والنابل؛ أي بين الصيد بالحبال، أو بالنبال، محدثاً الشك المتداول بين الجمع البشري وإداراته التي تقمصت أدوار الآلهة، وأخذت بممارستها، وكأنَّ بها هي في ذاتها.
نحن الشعوب النامية، أو السائرة في طريق النمو، والأصح التي أريد لها بإصرار أنظمتها، وبالاتفاق مع منظومة الدول المتقدمة، أن تبقى متخلفة، ألا تستحق الحياة؟
الأبرياء البسطاء، والطيبون والمؤمنون الفطريون، يقتلون كل يوم، وينساهم التاريخ، بينما يسجل قتلتهم أبطالاً، ألا ينبغي أن نتجه للشك بمجريات الأمور، وبكل ما يحصل لمجتمعاتنا، من أجل أن نصل إلى يقين الحياة، وأن ندرك أنَّ لنا الحقَّ في التفكير الإيجابي، الذي ينهي التكفير بكل أشكاله، وبعدها تتكون حياة كريمة وعاقلة، بعيداً عن كل شيء، حتى وإن كانت عن الإله، الذي غدا كثير وكثير يشك في هيمنته، وإلا فلماذا يحدث كل هذا فقط مع الشعوب المؤمنة به؟.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن