ثقافة وفن

في فخّ المثالية

 رانيا كرباج : 

نبحث عن الأخلاق فنقعُ في فخّ المثالية، ليست المثالية التي نصل إليها عن طريق رؤيا صادقة للذات ومحاولة واعية لتحريرها من كلّ ما يعوق نموها من عقد وضغط ومشاعر دونية، إنّما مثالية مزيّفة، عبارة عن مجموعة من الشعارات نرتديها كمن يضعُ قناعاً براقاً يخفي خلفهُ وجوهَهُ المُتعدّدة المتكسّرة الكثيرة.
طبعاً سيستنكرُ المثاليون، ما هذه الترّهات؟ كيفَ تُنكرينَ علينا ما بذلناهُ من جهودٍ مضنية لنبقى محافظينَ على صورتنا أمام الملأ؟ كيف تتّهميننا بالزيف ونحن من تخلّينا عن كل شيء لنتمسّك بمبادئنا؟ أي انحلالٍ في الأخلاق هذا الذي سنغرقُ فيه إن أصغى العالمُ إلى صرختِكِ وسقط المثاليونَ عن عرشهم؟
نعم لابدَّ من إسقاط المثاليينَ عن عرشهم لأنهم مدّعون، يكذبون على أنفسهم وعلى من حولهم، أغرقوا عالَمنا بإحساسٍ مزمنٍ بالذنب، إما عن وعي من أجل أن يتمكنوا من السيطرة، أو عن غير وعي من أجل أن ينقذوا أنفسهم المُضطربة، في كلتا الحالتَين هم غيّبوا المبدأ الأهم الذي تُبنى عليه الأخلاق ألا وهو الصدق، لأنه ببساطة كي تكون إنساناً ومثالياً لابدّ أن تكونَ كاذباً.
حتى الطبيعة لا تدّعي المثالية فهي كي تصلَ إلى ربيعها لا تتردّد تمرّ بفصول، تغضب، تحزن وتستكين، بمعنى أنها تقول الصدق.
من الصدق فقط نستطيع أن ننطلق لنجد إنسانيتنا، إنسانيتنا ليست مثالية، بل في أفضل الأحوال تسعى إلى النمو والتفتّح، لكن علينا أن نكون على درجةٍ من التواضع والجرأة لنبصرها جيداً ونتصالح معها بما فيها من نقصٍ وجمال، علينا أن نزيل كل الأقنعة والقشور التي راكمها الزمن وننطلق، نصغي إلى صوتِ أحزاننا ورغباتنا، ما يُقلقنا وما يؤرقنا نذهبُ معه إلى منبعه، نُدركه، نفهمهُ، نبادلهُ الحبّ كي يصير أكثر تهذيباً.
هذا لا يلغي أن هناك من هم أكثر طهارة من غيرهم، أن هناك على كوكبنا من الناس الطيبين ما يروي ظمأنا في صحراء الحياة، ولكن هؤلاء الذينَ يملكونَ قسطاً من الطهارة أو الذين استطاعوا بوعيهم أن يوسّعوا مساحةَ الخير في أنفسهم، هم المتواضعون، لا يدّعون المثالية ولا يحكمون على غيرهم بالنقصان، لأننا نحن البشر لا ندافعُ بشراسة إلا عما هو كاذب فينا، أمّا الأصيل فهو موجود ولا يحتاج إلى إثبات، هو فقط يتدفّق.
مجتمعاتنا كما نعلم غارقة في مثالية مزيّفة بدءاً من الأب والأم المثاليَين وصولاً إلى الإله الذي بدل أن نردم الهوة بيننا وبينه إلى أن نكتشفه في داخلنا بتنا نوسّعها عن طريق تحويله إلى مُطلق في المثالية لا نطاله ولا يتضّع ليلامسنا، هذه الثقافة لا تؤدي بنا إلا إلى مزيدٍ من الكذب والانحراف، فهي تقتل بذرة الإبداع والنمو فينا، تلك التي يلزمها الكثير من المحبة والثقة بالنفس كي تزهر، كما تبعدنا عن فرادتنا الضرورية لخدمة قانون التنوّع، عالمنا لا يقوم ويزدهر إلا على مبدأ التنوّع، وتحوّلنا إلى أشخاص متشابهين غارقين بالذنب لا حول لهم ولا قوّة أمام النموذج المثالي المفروض، وإن كنا على درجة من الضعف تودي بنا إلى مطبّات العنف والانحراف الأخلاقي التي نشهدها اليوم وبكثرة، أولسنا في عصرٍ تُرتكب فيه الفظاعات ويُدافع عنها بمثاليات.
اأؤمن أن الإنسان كيان تحرّكهُ طاقة، هذه الطاقة هي أمانة بينَ أيدينا، كما أؤمن أنها خلاقة وموجّهة أصلاً للخير، ولكنّها كثيراً ما تخبو أو تنحرف بسبب الكثير الكثير مما يقوّضها في داخلنا الممزّق أو خارجنا الذي لا يملّ يسلبنا خصوصيتنا ووجودنا البسيط على سطح أرضنا، مما يُفقدنا ذاك التوهّج الداخلي النبع الذي يتدفّق منه ضميرنا الحي وطريقنا الواعي الحرّ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن