ثقافة وفن

الثقافة الفنية ضعيفة في مجتمعنا والفن التشكيلي لا يحظى بالدعم الكافي … رويدة عبد الحميد لـ«الوطن»: الفنان لا ينتظر أن يحقق الثروة من الفن واللوحة هي انعكاس لأعماق الفنان وذاته

| طرطوس: سناء أسعد

الإبداع هو دعوة بوح لأعماق المبدع، دعوة إصغاء لذاته، ودعوة ليلمس الجمال، ليسمعه، ليتنشقه وليشعر به أينما وجد. يوحي به للآخرين وينثره حولهم صمتا أو بوحا ليكون صرخة أمل، صرخة إنسانية، وصرخة محبة وسلام
والمبدع الحقيقي هو من يوقظ الجمال القابع في زوايا النفوس المظلمة، وهو من يجعل نور فكره يشرق من بين أصابعه ليضيء درب كل من يبصره.
وهو أيضاً من جعل إبداعه هوية للتعريف به وجزءاً لا يتجزأ من روحه ومشاعره وأحاسيسه ومن قناعاته ومبادئه.
والفنانة التشكيلية رويدة عبد الحميد اختارت الريشة لتكون هوية لإبداعها وصوتا لبوحها الأنثوي ورسالتها التي تحرص أن تؤديها بدقة وإتقان وبكل صدق وإخلاص، تسمع الجمال لترسمه وعندما تعجز تكتبه، فنها يشبه روحها تحتضنه وتغوص بتفاصيله لتنسج لنا بألوانها الراقية والمتناسقة أعمق الحكايات وأكثرها عبرة وحكمة.
ولأن المرأة أكثر ما يغري ريشتها كان لها النصيب الأكبر في تجسيدها في أغلب لوحاتها في معرضها «بوح الكمان» الذي أقامته في ثقافي طرطوس.
من بوح الكمان استمدت ريشتها 46عملا فنيا جسدت فيه المرأة الأم والمرأة الحالمة، العاشقة، المعطاء، العاملة، والمتمردة كما جسدت أيضاً التراث السوري، الطفولة المشردة والأفكار الضائعة والأحلام المشنوقة، وأفكاراً أخرى أبصرت النور بعد عمل دام عامين ونصف العام مستخدمة فيه تقنيات الأكريليك وخامات الخشب والقماش.
«الوطن» زارت المعرض والتقت الفنانة التشكيلية رويدة عبد الحميد للغوص أكثر في عمق هذه التجربة وتفاصيلها وكان لنا معها هذا الحوار:

بوح الكمان عنوان معرضك الحالي.. هل للعنوان البوح هذا حكاية؟
بالتأكيد لا يوجد شيء من دون حكاية، وآلة الكمان من الآلات التي أحبها جداً وأحب أن أستمع لصوتها عندما أرسم، هناك عمق في صوت الكمان هناك حنان وحزن وخليط من المشاعر الرقيقة الدافئة التي تؤثر فيّ وأنقلها إلى فرشاتي لأرسم بها، صوت الكمان كان يرافقني مع كل لون وكل حركة وخط وهذا ما يمكن أن يلمسه المتلقي في أغلب لوحاتي.. هناك نغمات للكمان لها امتداد وأنا حاولت أن أجسد هذا الامتداد من خلال لوحاتي ولشدة تأثير الكمان وصوته على طريقة تعبيري في رسم هذه اللوحات سميت معرضي بوح الكمان.

هل تعتبرين أن مشاعر الحزن هي مصدر إلهامك وإبداعك؟
ليس بالضرورة لكن الحزن يؤثر فيّ أكثر من الفرح ويمنحني قوة أكبر في التعبير.. لأنني أرى في الحزن عمقاً يجعلني أعبر بطريقة عميقة. يمكن لأنني أشعر بأن السعادة سطحية والحزن عميق، السعادة مزيفة والحزن حقيقي فعندما نحزن فبالتأكيد نحن صادقون بحزننا ولكن شعورنا بالسعادة قد يكون مجرد وهم أو كذبة مؤقتة.. الحزن يجعلنا ندخل إلى أدق تفاصيلنا، نغوص فيه ويأخذنا إلى عالم آخر ومختلف كليا وقد يكون في كثير من الأحيان سبباً في اكتشاف ذاتنا، أما الفرح فأنا أشعر بأنه يبقى على السطح.

أين يكمن جمال اللوحة بشكل أكبر برأيك؟ هل في دقة الرسم وتناسق الألوان أو في الرسالة التي تتكلم عنها ألوانها الصامتة؟
صراحة لا يمكنني أن أنحاز إلى الشكل من دون المضمون أو إلى المضمون من دون الشكل فكلاهما مهم جداً بالنسبة لي، فمن الممكن جداً أن أقف عند لوحة جذبتني من دون أن افهم موضوعها، شدتني إليها من دون أن أعرف السبب. ويمكن أن تكون ألوانها رائعة وموضوعها مهماً لكنها لم تشدني، لذلك أنا أرى أن جمال اللوحة يكمن بقدرتها على التأثير في المتلقي وعندما يلتقي الشكل بالمضمون ويحققان الحلقة التكاملية فحتما سيشعر المتلقي بجمال اللوحة ويتأثر بها.

إلى أي مدى تخبرنا الألوان الممزوجة في هذه اللوحة أو تلك عن أعماق الفنان وروحه؟
اللوحة هي انعكاس لأعماق الفنان لذاته وروحه، لأفكاره وأحلامه ولوجعه وهي انعكاس للواقع أيضاً ولكن برؤية الفنان الخاصة به.. فالفنان لا يرسم كل ما يخصه فقط بل يرسم واقعه بما يحمله من جمال، من ألم ومن ظلم يرسم قضايا الناس وهمومهم وكل ما يؤثر فيه.
فاللوحة في النهاية هي خليط من مشاعر الفنان وأفكاره وإحساسه وبمنزلة هوية للتعريف عنه.

إلى جانب الموهبة إلى أي درجة تسهم ثقافة الفنان في أن يلمس المتلقي إبداعاً لافتاً؟
أكيد الثقافة الفنية مهمة جداً فلا يمكن لأحد أن يدخل في طريق يجهل معالمه وخصائصه وكل ما يتعلق فيه، فالفطرة وحدها لا تكفي لخدمة الموهبة.. الثقافة هي التي تجعل الفنان قادراً على تجسيد الخط واللون والبعد، والأهم هو معرفة اختيار المدرسة التي تنتمي إليها اللوحة وأيضاً ثقافة تكامل الألوان واندماجها بطريقة تخدم الفكرة ولا تؤذيها.. هناك ثقافة لها علاقة بالمدارس والمذاهب، وثقافة لها علاقة بالتكوين والشكل وترتيب العناصر وكيف يمكن أن نعطي الإيحاءات ونجيد التعبير عما نريد بطريقة صحيحة، بالخط واللون لتكون اللوحة كاملة متكاملة شكلاً ومضموناً.
الثقافة العامة في مختلف مجالات الحياة وليس الثقافة الفنية وحسب تمنح القدرة على التعبير وإسقاط ما نمتلكه من معلومات على اللوحات.. فمن خلال اللوحة يمكنني أن أجسد معزوفة تروق لي أو حكمة تهمني أو بيت شعر يؤثر فيّ.. الثقافة تكمل الفنان وتمنحه الثقة والقدرة على التعبير بطريقة غنية متكاملة لا يوجد فيها ضعف أو نقص.
والثقافة ليست مطلوبة من الفنان فقط بل من المتلقي أيضاً لكي يقدر قيمة ما هو معروض أمامه لأن الجهل بالموضوع يفقده قيمته وهذا ما نعانيه نحن كفنانين.. فلو كان هناك ثقافة فنية لكان هناك قبول أكثر واهتمام أكبر بالمعارض الفنية.

برأيك هل نعيش في مجتمع يفتقد الثقافة الفنية؟
بالتأكيد نحن نفتقد الثقافة الفنية، والشريحة المثقفة فنياً محدودة وصغيرة جداً.. وليس مطلوباً من الناس أن تقرأ فناً بل يكفي أن تحضر المعارض لكي تمتلك ثقافة فنية.. فالثقافة الفنية تأتي من حضور المعارض وحضور الأمسيات الشعرية والموسيقية.. الرؤية والاستماع يجعلاننا ذواقين للفن ولكن للأسف في مجتمعنا لا توجد تغذية للأذن ولا للبصر ولا للعقل، نحن مجتمع ضعيف فنياً بكل ما للكلمة من معنى.

ماذا يمكن أن تضيف الثقافة الفنية للمجتمعات التي تهتم بها؟
عندما يكون هناك ثقافة فنية لا يكون هناك مشاكل وحروب ولا قتل لأن الفن يحمل رسائل سلام ومحبة، فعندما يكون الإنسان مثقفاً فنياً يكون وعيه أكبر، يكون هادئاً، وأكثر رقياً في التعامل، وأكثر احتراماً لذاته، ولإنسانيته، وللآخر.. فسبب رقي أي مجتمع وتقدمه هو اهتمامه بالفن والشعر والموسيقا.

متى يشعر الفنان أنه حقق نجاحاً.. هل في قدرته على ترجمة ما يجول في أعماقه أم في قدرته على رسم عدد أكبر من اللوحات؟
عدد اللوحات بعيد كلياً عن النجاح، والكم لا علاقة له أبداً بالنجاح.. برأيي أنا بقدر ما أستطيع إيصال أفكاري ورسائلي للمتلقي بشكل صحيح وبقدر ما أستطيع التعبير عما يجول في أعماقي أعتبر أنني حققت نجاحاً فالقدرة على التعبير هي إنجاز بحد ذاته.

وبماذا تواجهين العجز عندما تشعرين به؟
أواجهه بالقلم، عندما تعجز ريشتي عن الوصف أستعين بقلمي، فهناك كثير من اللوحات لا ترسم، كما هناك كثير من الأفكار لا تكتب.. عندما يصعب عليّ رسم لوحة أكتبها وأحياناً يكون لدي فكرة أشعر أن الحروف قد تظلمها ويمكن للصورة أن تنصفها أكثر فأرسمها.
بالنسبة لي الريشة والقلم أصدقاء وهناك الكثير من الهواجس بأفكاري لا يمكن أن أتركها من دون التعبير عنها.

ما سر تجسيدك للمرأة في أغلب لوحاتك؟
المرأة هي الأكثر إغراء لريشتي، فالأنثى موضوع مهم ويستحق أن ترسمه ريشتي وأي شيء في الحياة يمكن إسقاطه على المرأة، فهي موضوع خصب ولا يمكن تجسيدها بفكرة معينة أو وصفها بمشاعر محددة، فمن الممكن أن تعني الحب والسلام ويمكن أن تعني الخير والعطاء ومن الممكن أيضاً أن تعني الشر والحرب والتمرد، ويمكن أن تجسد الضعف والقوة في آن واحد.. المرأة الحقيقية برأيي هي المرأة التي يوجد بداخلها أكثر من امرأة.

في إحدى لوحاتك طفلة تسأل عن وطنها عن أي وطن تبحث هذه الطفلة؟
الطفل هو أكثر من يتأثر بالحروب وأكثر ما يؤثر فينا، نحن وسط هذه المعاناة التي نعيشها هي معاناة الطفل.. الطفل الذي شردته الحروب وحرمته من بيته وأهله ومن مشاعر الحب والأمان والحنان التي تشكل بالنسبة له جميع مواطن استقراره، وعندما تقول هذه الطفلة أين وطني فهي بالتأكيد تسأل عن وطنها الصغير الذي يمثله بيتها وعائلتها.. فالبيت هو الوطن الصغير الذي يحتوي الأسرة، والوطن الأكبر هو الذي يحتوي الشعب.. وعندما فقدت هذه الطفلة الأب والأم والبيت، شعرت بوحدتها وكتبت على الجدار أين وطني؟ ورسمت بيتاً صغيراً تحلم به وتحلم باللحظة التي يأتي بها أبواها ليحتضناها ويأخذاها إليه، فالوطن الذي تبحث عنه هذه الطفلة هو البيت والعائلة ومشاعر الحب والحنان والأمان التي حرمت منها.
هناك بعض اللوحات التي نترك فيها هامشاً لخيال المتلقي لكي يغوص فيها ويقرأ كما يرى ولكن بعض اللوحات التي نريد إيصال رسالة محددة من خلالها يهمنا أن يفهمها المتلقي كما أردناها أن تصل لأن الفهم الخاطئ لها قد يؤذي الفكرة ويسبب ضياعها.
برأيك هل يحظى الفن التشكيلي في سورية بالدعم الكافي؟ للأسف لا يوجد دعم كافٍ.. التغطية الإعلامية للمعارض رائعة بل هي كما يجب وزيادة.. لكننا نفتقد لثقافة الاقتناء، فلكي يستمر الفنان يجب أن يبيع لوحاته ليشتري مواده ويبدأ بالتجهيز لمعرض آخر… وهناك الكثير من الفنانين الغائبين عن الساحة التشكيلية ولا أحد يسمع بهم بسبب عدم وجود الدعم الكافي لهم للاستمرار.
الفنان لا ينتظر أن يحقق له فنه ثروة كبيرة ولكن يجب أن يكون الفنان مرتاحاً مادياً لكي ينتشر حتى لو لم يبع لوحاته، وبالنسبة لي أنا لا أبيع لوحاتي لتأمين لقمة عيشي على الرغم أن هذا من حقي، هدفي من البيع هو الاستمرار ومن أجل إقامة معارض أخرى وكل ما أسعى إليه أن يغذي الفن نفسه بنفسه لا أن يغذيني، أريده أن يغذيني روحياً وليس مادياً وهنا لابد أن نعود لنذكر ضعف الثقافة الفنية في مجتمعنا والتي اعتبرها سبباً قوياً في غياب ثقافة الاقتناء.

الكمان أنهى بوحه في محافظة طرطوس هل هناك نية لإطلاق بوحه في محافظات أخرى؟
سأطلق بوحه في مكان آخر لكن لم أحدده بعد.

هل لديك مشاركات في معارض جديدة قريباً؟
نعم سأشارك في معرض للفن التشكيلي في مدينة بابل تلبية لدعوة المؤتمر الدولي للإبداع في العراق وسأعرض فيه لوحات لها علاقة بتراثنا لأنني أريد أن أقدم نفسي كسورية تفتخر بسوريتها، وتفتخر بتراثها وحضارتها وبيئتها من خلال عرض لوحات تجسد التراث السوري وتجسد البيئة والحضارة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن