قضايا وآراء

«قسد» وتحديات تقرير المصير

| محمد نادر العمري

دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة، فبعد توقف تمدد معظم المجموعات المسلحة، وتجمعها في المنطقة الجغرافية الشمالية، أصبح الصراع قائماً بين الأوزان الثقيلة، فمرحلة حقبة الحروب بالوكالة وصلت لخواتيمها، لنشهد مرحلة صراع المصالح والإرادات المباشرة، حيث أصبحت القوى الإقليمية والدولية أمام الاستحقاقات وجهاً لوجه، لا يمنع ذلك من وجود جيوب لهذا الطرف أو ذاك، ولا قرارات تكتيكية مفاجئة من هنا وهناك، فإذا كانت القوى الفاعلة تعرف أن الصدام العسكري هو آخر الخيارات وأخطرها لأن آثار هذا الصدام هي أكبر بكثير من قدرة كافة الأطراف على ضمان نتائجها ومصالحها، فإنها ليست متفقة على صيغة للخروج من الأوضاع الراهنة بما يؤمن مصالح كل الأطراف، ذلك لأن أولويات تلك المصالح متضاربة حتى اللحظة إلى حد يجعل الحل السياسي مؤجلاً أقله في المدى المنظور، مع ما يحمله ذلك من سعي أميركي لفرض تقسيم الأمر الواقع وما يحمله ثانياً من استمرار المأساة السورية.
وضمن هذا المنظور يمكن قراءة طرح مشاريع عديدة في رسم مشهد يتضمن تثبيت سيطرة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» على المنطقة الشمالية الشرقية وفرضها كأمر واقع من قبل الإدارة الأميركية، التي سعت لحصول تأييد محلي وإقليمي ودولي بشرعيتها من خلال:
1- اعتبار ميليشيات «قسد» شريك إستراتيجي لما يسمى «التحالف الدولي» في إحراز النصر ضد تنظيم داعش الإرهابي، وفق تصريحات كبار مسؤولي الإدارة الأميركية وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأمر الذي دفع «قسد» لرفع سقف مطالبها بشرط استباقي تمثل في «الاعتراف بالإدارات الذاتية» قبل بدء أي حوار مع دمشق.
2- التراجع عن قرار الانسحاب الأميركي من سورية الذي أعلنه ترامب مع نهاية 2018 واستبداله بتكتيك إعادة التموضع والانتشار، لقطع الطريق أمام أي احتمال من عودة الدولة السورية ومؤسساتها إلى الشمال السوري، وهو الأمر الذي لم يخفيه المسؤولون الأميركيون وفي مقدمتهم المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري منذ أيام عندما زعم أنه «لا عودة للحكومة السورية وحليفتها إيران إلى المنطقة في المرحلة الراهنة».
3- تغيير الذرائع والمبررات الأميركية لاستمرار بقاء قواتها في الشمال السوري من محاربة داعش، إلى ملاحقة فلوله، وربط الانسحاب ببدء العملية السياسية، وقد نشهد في مرحلة معينة تبرير هذا البقاء بذريعة حماية الأقليات، وهذه التبريرات في نهاية المطاف تلبي تطلعات وأجندات «قسد»، لذلك فإن هذا الانسحاب سيبقى «مطاطاً» وفق وصف «نيويورك تايمز» التي كشفت عن خطة أميركية لخفض قواتها المحتلة في سورية إلى 400 جندي بحلول خريف عام 2020.
4- الزج بميليشيات «قسد» أثناء معركة الباغوز في واجهة التفاوض والتنسيق مع الدول التي ينتمي إليها عناصر داعش الإرهابيون لتقرير مصيرهم أو مقاضاتهم، وفي كلتا الحالتين كان سعي الإدارة الأميركية من ذلك هو فرض «قسد» على هذه الدول من جانب، ومن جانب آخر كانت تسعى لحصول هذه الميليشيات على اعتراف ضمني لها من قبل الدول والمنظمات الدولية.
نجاح الإجراءات والسلوكيات الأميركية في فرض «قسد» كأمر واقع كحليف لها في الشمال السوري لا يعني نجاح ديمومة بقائها، لأن هناك تحديات وجودية لاستمرار «قسد» وهي:
تحديات ذاتية: تنقسم لعدة فئات، أولها أن التقديرات للمساحة التي تحتلها «قسد» من سورية تتراوح بين 25 إلى 28 بالمئة من الجغرافية السورية، وعدد مقاتليها لا يتجاوز 55 ألفاً، وبالتالي لا يمكن لهذه القوى أن تؤمن الحماية لحدود إداراتها الذاتية المزعومة في ظل وجود رفض وتهديد على كامل الحدود لها، وبخاصة أن من بين قوام هذه القوات 11 ألف قتيل و21 ألف جريح أثناء المعارك ضد داعش وفق تصريح المتحدث الرسمي باسم «قسد» مصطفى بالي بعد انتهاء معركة الباغوز.
ثاني هذه التحديات الذاتية تكمن في البنية غير المتماكسة لميليشيات «قسد» المكونة من 47 فصيلاً مسلحاً، حيث تشير التقديرات أن نسبة القوى الكردية داخل هذه البنية لا تتجاوز ما نسبته 32 بالمئة، بينهم أكثر من 12 بالمئة من قوات البشمركة العراقية والتركية أو ما يعرف بقوات «روج أفا» وبعض المتطوعين الأوروبيين، والباقي أي نسبة 68 بالمئة هم من العرب، وهناك ثلاث مؤشرات لحصول صراع أو انقسام في التوجه والمواقف داخل بنية «قسد» تكمن في:
– الرفض الشعبي في المناطق التي تسيطر عليها «قسد» على إجراءات «التكريد» التي تقوم بها قيادات هذه القوى وجناحها السياسي «مجلس سورية الديمقراطي – مسد» من تغيير للنماذج الدراسية وجعل اللغة الكردية رسمية، والتجنيد الإجباري والأتاوات وسرقة الثروات الوطنية والاستفراد بالقيادة والقرار، وصولاً لعلاقة «قسد» مع الكيان الإسرائيلي وبخاصة أن زيارة الصحفي الإسرائيلي موآف فرداي لمناطق شرق الفرات أثناء إعداده تحقيقاً تحت اسم «قصة الأكراد في سورية» لـ«قناة 11» الإسرائيلية ولقاءه بالمسؤول العام لـ«قسد» مظلوم كوباني وتجوله في مناطق عديدة بحماية «قسد»، أثارت طرح مثل هذه العلاقة على غرار العلاقة الإسرائيلية مع إقليم كردستان العراق ولاسيما في ظل وجود الحليف الأميركي.
– تأكيد الناطق الرسمي السابق باسم «قسد» العميد طلال سلو، أن «قسد» دخلت في مرحلة صراع داخلي على أساس قومي بين المكون العربي والكردي، وذلك على إثر ما سماه «القضاء على داعش في منطقة شرق الفرات» لم يأت من فراغ ولا يمكن تصنيفه فقط في سياق التصريحات الإعلامية في ظل وجود علاقات واتصالات مستمرة بين سلو وأطياف واسعة من «قسد»، وهذا ما يجعل هذا التصريح مبني على معلومات في ظل المحاولات الروسية الإيرانية وبكامل الرضا والترحيب من دمشق لاستقطاب العشائر العربية وباقي المكونات السورية.
– معلومات ذكرها موقع «المونيتور» الأميركي، تتضمن تواصل شخصيات من العشائر العاملة تحت مظلة «قسد» مع الحكومة السورية مبدية استعدادها للحوار.
هذا فضلاً عن مصير الدواعش وزوجاتهم وأبنائهم الموجودين في مخيم الهول والذين يشكلون خطراً أمنياً وفكرياً وأيديولوجياً على مستوى المنطقة، والتخبط الذي ستشهده «قسد» في التعامل معهم وبتقرير مصيرهم في ظل حصول تجاذبات إقليمية ودولية.
بينما تتمثل التحديات الخارجية أو ما يمكن تسميته بالموضوعية، في رفض القيادة السياسية في دمشق بالدرجة الأولى لأي تقسيم جغرافي لخريطتها وسيادتها الوطنية بعد سنوات ثمان من التضحيات، ويؤيدها في ذلك حلفاؤها وأصدقاؤها الذين يدركون أن المشاريع التي تتبناها «قسد» هي أميركية وتستهدف أمن المنطقة بالكامل وهذا يبرز بوضوح تذبذب وتفاوت السلوك الكردي حسب الدعم الأميركي له.
أما التحدي الثاني هو رفض إقليمي لحصول مثل هذا التقسيم، رغم الخصومة والعداء الكائنة بين دمشق وأنقرة، إلا أن هذا الخطر تستثمره موسكو لطرح مبادرة تصالحية قائمة على مواجهة المخاطر وعودة التنسيق بين العاصمتين وفق بروتوكول أضنة، وهو ما تؤيده طهران لتسريع حل الأزمة السورية والتخفيف من حجم الضغوط الأميركية على المنطقة بأكملها وسد الثغرات أمامها.
هذه التحديات تضع «قسد» بين ثلاث سيناريوهات تتضاءل نسبة حتمية حدوثها وفق ترتيبها: السيناريو الأول: استمرار الرهان على الغطاء الأميركي والغربي لتحقيق مآربها، وهذا سيناريو سيجعلها عرضة لمواجهة القوات السورية أو التركية أو حتى السورية العراقية فضلاً عن انقسامات داخلية وانسحاب المكون العربي منها وبعض القوى الكردية الوطنية المتحيزة للحوار مع دمشق بشكل أكبر وأوسع، فضلاً عن الانتفاضة الشعبية التي ستواجهها «قسد» في الكثير من المناطق الواقعة تحت سيطرتها وبخاصة في المناطق التي لا يمثل بها المكون الكردي أكثر من 1 إلى 3 بالمئة من نسبة السكان مثل ريف دير الزور ومدينة الرقة رغم وعودها بإعادة الإعمار.
أما السيناريو الثاني: فيتمثل بالوصول إلى صيغة توافقية أميركية تركية لإقامة ما يسمى المنطقة الآمنة تكون بحماية غربية وتركية وتقصي «قسد» إلى جنوبها وصولاً للبادية، وهذا من شأنه نسف اتفاق «سوتشي« و«مسار أستانا» بالكامل، ووضع «قسد» بين فكي كماشة، التركي في الشمال والسوري ومحور المقاومة من باقي الاتجاهات.
أما السيناريو الثالث وهو الذهاب نحو مصالحة تدريجية مع دمشق، وهذا السيناريو مؤشرات ونسبة حصوله بالوقت الحالي هي الأقل نتيجة الانتعاش الذي تعيشه «قسد» من الدعم الأميركي واعتبارها حليفاً استراتيجياً في النصر على داعش من قبل ما يسمى التحالف، إن لم تحصل تبدلات وتطورات تعيد خلط هذه السيناريوهات وتعيد معها تغير احتمالات حدوثها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن