من دفتر الوطن

عندما يتوه «طِيرجَانو» على «بَرْ يانِس»..

| فرنسا - فراس عزيز ديب

يتربع «سد الثورة» في ريف اللاذقية على إحدى أجمل المناطق ليسَ في سورية فحسب، لكن ربما في الشرق الأوسط كاملاً، فعلى المستوى الشخصي مثلاً لا يمكن لي أن أزورَ اللاذقية من دون زيارة هذهِ المنطقة. قبل هذه الحرب اللعينة وقبلَ إدمان الهواتف الذكية اصطحبتُ أحد الأصدقاءِ إلى هناك، في الطريقِ مرَرنا بقريةٍ اسمها «طرجانو»، فسألني صديقي، برأيَك ما سبب هذه التسمية؟
بصراحة لم أكن لأمتلِك جواباً، فمازحتهُ بصورةِ الواثِق من جوابهِ:
لعلَّ شخصاً اسمه «جانو» عاشَ في هذهِ المنطقة قبلَ قرونٍ من الزمن، وكان يمتلك طيراً من الطيور النادرة، حتى باتت المنطقة محجَّاً للراغبينَ برؤيةِ الطير، وبات اسم المنطقة مرتبطاً بالطيرِ وصاحبهِ، ومع الزمن تحوَّلَ الاسم مِن «طير جانو» إلى «طرجانو».
غادرنا القريةَ واتجهنا شرقاً، قصدنا ناحية «المزيرعة» وعبَرنا قريةً وادعةً اسمها «بَرْيانس»، هنا أعاد صديقي السؤال ذاته:
برأيك ما سبب هذه التسمية؟
قلت له إن مياه البحر قديماً كانت تُغطي معظمَ هذهِ المناطق، فلعلَّ هناكَ شخصاً اسمهُ «يانِس» تاهَ بمن معهُ بسفينتهِ ووصلَ بهم إلى هذا البر، فبات البر الذي وصلهُ يانس، ومن بعدها بات اسم القرية «بَرْيانس»، هنا أدرك صديقي أنني أمازحهُ، وأدركَ أن عليهِ محوَ هذهِ المعلومات من ذاكرتهِ لأنها غير صحيحة.
وقتها لم يكن هناكَ مواقعَ للتواصل الاجتماعي، حتى المواقع الإلكترونية كانت بالكاد قد بدأت في سورية لكن ماذا لو جرَت هذهِ الحادِثة في أيامنا هذه، وبطريقةٍ أبسط:
ماذا لو استغللنا الفكرة وأنشأنا صفحةً في هذا العالمِ الأزرق تدَّعي معرفةَ جذورِ وأصولِ تسميةِ المناطق والقرى السورية بشكلٍ عام؟
ربما إن هذا الأمر موجود حالياً، وفي مواضيعَ أخطرَ بكثيرٍ من مجردِ أصل التسميات للمناطق السورية، هو نوعٌ من «الهبل» الثقافي والتاريخي بما يمتلكه العالم الرقمي اليوم من صفحاتٍ ومواقع جميعها تدَّعي البحث التاريخي ومعرفةَ أصلِ السوريين لدرجةٍ بات فيها المواطن السوري ينام وهو مقتنع بأنه من جذورٍ عربية، ليستيقظ فيجد من يقنعهُ بأن العرب لم يسكنوا المنطقة بل نحن آراميون موجودونَ من قبل الآشوريين.
بعد تناول وجبة الغذاء مثلاً قد يكتشف أن طعامهُ كنعاني الأصل، إذن فنحن كنعانيون وعشتار كذبة كبيرة، أما زنوبيا وجوبيتير الدمشقي فهما دخيلان على التاريخ، وأما قبل النوم فلا بد لك من وجبةٍ دسمةٍ يثبتون لك فيها أن اللغة التي نتحدثها هي «لغة محتل» وهي في الأصل لم تكَن كذلك، صفحات ومواقع وباحثون نكاد نشبههم بأولئك الذين يعرضون مقتنياتهم المسروقة عبر الإنترنت للبيع، يبدو لهم هدف وحيد فقط وهو المزيد من الفوضى المعرفية والثقافية وصولاً لفوضى تشويهِ الحقائق والتاريخ لدرجةٍ بِتنا فيها ومن شدةِ التناقضات التي نقرؤها نحن البسطاء لانسأل عن ردةِ فعلٍ ننتظرها من أصحاب الشأن للالتفات إلى خطورةِ هذهِ المواقع ومن يدَّعون أنهم باحثون تاريخيون فحسب، لكننا بتنا نتجاهل كذلك الأمر سؤالاً جوهرياً: من نحن؟
حذارِ من الذين يتعمَّدون ضياعَ الهوية، حتى لا نصل يوماً لنجد أنفسنا فيهِ نتوه كما قد يكون قد تاهَ «طِيرجَانو» على «بَرْ يانِس».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن