من دفتر الوطن

الجولان والمتنبي

| حسن م. يوسف

وعدت في مقال سابق أن أحدثكم عن محاولة الاغتيال التي تعرض لها المتنبي أثناء مروره في بلدة «كفر عاقب» بالجولان، إثر هروبه من الإقامة الجبرية التي فرضها عليه كافور الإخشيدي حاكم مصر آنذاك. وقد وثق المتنبي تلك المحاولة في قصيدة طويلة:

«أَتاني وَعيدُ الأَدعِياءِ وَأَنَّهُم /أَعَدّوا لِيَ السودانَ في كَفرِ عاقِبِ /وَلَو صَدَقوا في جدِّهِم لَحَذِرتُهم/ فَهَل فيَّ وَحدي قَولُهُم غَيرُ كاذِبِ»

تفيد المراجع الأدبية وكتب التاريخ أن المتنبي الذي وصف بأنه «مالئ الدنيا وشاغل الناس»

أمضى قرابة تسع سنوات مع سيف الدولة، قال فيه من الشعر ما خلَّد مآثره وبطولاته، وأنا أتفق مع الدارسين القائلين بأنه لولا شعر المتنبي لانطفأ ذكر سيف الدولة مثل كثيرين من الحكام في تاريخ حلب المديد.

من المعروف أن المتنبي كان يطمح للزواج من خولة أخت سيف الدولة وأن يصبح حاكماً لولاية ما، لكن سيف الدولة لم يستجب لطموحاته، وفي آخر قصيدة ألقاها المتنبي أمام سيف الدولة أبيات تشير بوضوح إلى حالة الاستعصاء التي وصلت إليها الأمور بينه وبين ابن خالويه وأبي فراس وابن نفطويه وانحياز الأمير لهم:

«يا أَعدَلَ الناسِ إلا في مُعامَلَتي/ فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ /أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً/ أن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ» فعندما وصل المتنبي إلى قوله: «أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إلى أَدَبي/ وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ» أجابه أبو فراس الحمداني: «وماذا تركت للأمير إذا؟» وعندما أشار المتنبي لنميمة ابن خالويه: «إن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا / فَما لِجُرحٍ إذا أَرضاكُمُ أَلَمُ»

عندها هجم ابن خالويه على المتنبي وضرب وجهه بمفتاح كان في يده فشجه، ولم يتدخل سيف الدولة للدفاع عن المتنبي، كما لم يطيب خاطره بكلمة، فخرج المتنبي غاضبا من المجلس واتجه إلى دمشق، وأقام فيها حتى وصلته دعوة من حاكم مصر كافور الإخشيدي فلباها.

أحد الدارسين لشعر المتنبي يرى أنه قد جاء لكافور طلباً للانتقام.

«أَبا المِسكِ أَرجو مِنكَ نَصراً عَلى العِدا             وَآمُلُ عِزّاً يَخضِبُ البيضَ بِالدَمِ»

­­والبيت السابق يشي بأن المتنبي قصد كافوراً على أمل أن يمده بجيش للانتقام من سيف الدولة وأركان مجلسه! لأنه في قرارة نفسه كان يحتقر كافور. فأثناء قيام العالم الكبير أبو الفتح ابن جني بدراسة وجمع ديوان المتنبي وشرحه، استوقفه قول المتنبي في القصيدة التي مدح فيها كافور الإخشيدي:

«وما طربي، لما رأيتكَ بدعةً        لقد كنتُ أرجو أن أراكَ، فأطرب»

فالتفت ابن جني إلى المتنبي متسائلاً: «أجعلتَ الرجلَ أبا زنة؟» – وأبا زنة هي كنية القرد- بحيث كان يطربك؟» ولم يجد المتنبي ما يردّ به على صديقه سوى أن يضحك، وهو ما جعل ابن جني يستنتج أن «… هذا البيت، وإن كان ظاهره مديحاً، فإنه إلى الهُزء أقرب».

لم يكن كافور الإخشيدي وحده يطلب رأس المتنبي، فبعد أن نجا من الاغتيال في كفر عاقب، وجد نفسه مطارداً من فاتك الأسدي بسبب هجائه لأخته وابنها ضبة. كان المتنبي في الخمسين من عمره، وكان يعلم أنه مهدد بالموت، لكن كبرياءه لم يسمح له أن يستأجر من يرافقونه في سفره، وهكذا أدركه فاتك الأسدي في سواد العراق وليس معه سوى ابنه وغلامه، فقتلهم فاتك جميعاً، في السابع والعشرين من أيلول 965م.

كان المتنبي ظاهرة شعرية ترعب الحكام والأمراء، وهو ما يشي بأن اغتياله كان سياسياً إلى حد ما. فالعبقرية ترعب ذوي العقول الراكدة، وقد صدق دانييل ديفو إذ قال:

«عندما يولد عبقري في هذا العالم، يمكنك أن تميزه بهذه العلامة: إذ يشكل الحمقى تحالفاً ضده».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن