ثقافة وفن

رسالة إلى العقل

د. علي القيم : 

تعد نظرية العقل من القضايا الفلسفية، التي ما تزال موضع إشكال وتساؤل حتى في الفلسفة المعاصرة… وتعود في أصولها ودلالاتها إلى أرسطو الذي ميّز بين نوعين من العقل، هما، العقل العملي، والعقل النظري… العقل العملي، يخضع للإرادة في استنباط ما ينبغي أن يفعل أو يترك، ومن ميزات هذا العقل أنه قابل للنمو والتطوّر والزيادة، كلما طال به أمر الممارسة، وقد قدم شرّاح النظرية الأرسطيّة تسميات عديدة حوله، مثل: عقل القوة، العقل الممكن، العقل الهيولاني، العقل المادي، أو العقل السلبي، أو العقل المنفعل، وهو عبارة عن استعداد أو قابلية تلقي المقولات، فالعقل بالقوة، أشبه بالمادة في استعدادها وقابليتها تلقي الصور، وبعدها تحويل الصور الحسيّة إلى مفاهيم مجردة، وتعقل العقل لنفسه من حيث هو عاقل لمعقولاته.
لقد أثار أرسطو في نظريته عن العقل اهتمام الفلاسفة، ودار حول مقولاته الجدل والنقاش عند كثير من العلماء والفلاسفة في العصرين الهلّينستي والوسيط، وكان للعرب نصيب كبير من هذا النقاش والجدل، وخاصة عند ابن سينا والفارابي وابن رشد، وقد أفرد لها نصر الدين الفارابي، رسالة خاصة بعنوان: «رسالة إلى العقل» فضلاً عن مواضيع متفرقة وردت في ثنايا مؤلفاته مثل: «آراء أهل المدينة الفاضلة» و«كتاب السياسة المدنية» و«التنبيه على سبيل السعادة» وكتاب «تحصيل السعادة»… وتنسحب لفظة «عقل» عند الفارابي، على معان عدة، فهي الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان إنه عاقل، وهي الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون: هذا مما يوجبه العقل، وينفيه العقل… والعاقل، من كان فاضلاً وجيه الرؤية في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير أو يتجنب من شر.
في «رسالة إلى العقل» ترى أن العقل عند الفارابي، يقال على أربعة أنحاء هي: «عقل بالقوة، وعقل بالعقل، وعقل مستفاد، والعقل الفعال» وتمثل العقول الثلاثة الأولى، القوة الناطقة، في العقل الإنساني، أما العقل الفعال فهو عقل كوني خارج النفس الإنسانية.
إن العقول الثلاثة عند الفارابي، هي قوى عقلية اعتبارية متفاضلة تتدرج أو تتوالى من الأدنى إلى الأعلى، أو لنقل من الأنقص إلى الأكمل، لكونها غير كافية وحدها في تحصيل المعرفة الحقيقية، ولذلك يرى الفارابي ضرورة افتراض وجود عقل آخر أعلى يُخرج العقل الإنساني، من القوة إلى العقل، وهذا هو العقل الفعال، الذي خصّه الفارابي بوظيفة معرفية، لأن العقل الإنساني في نظره يفيض عليه العقل الفعال، الذي يحقق للإنسان درجة السعادة والكمال، وذلك بإعطائه المعاني الكليّة العلمية والخلقية والميتافيزيقية… لقد أدخل الفارابي العقل الفعال ليبني عليه بناء فكرياً فلسفياً وعقائدياً دينياً، يقوم في أساسه على العقل الفعال.
العقل الفعال عند الفارابي، ليس يفعل دائماً، بل يفعل حيناً، ولا يفعل حيناً آخر… لقد خصّه الفارابي بوظيفة التحريك والتدبير، وعدّه المدبر لعالم ما تحت القمر، والأمر يستلزم أن يكون دائم الفاعلية، لأنه المسؤول عن تحقيق ظاهرتي الكون والفساد، ولذلك يسميه الفارابي «واهب الصور للموجودات الحسية» فما دام العالم الطبيعي في تغيّر وحركة مستمرين وانتقال من الموجود بالقوة إلى الموجود بالفعل… فيجب أن تكون فاعلية العقل الفعال مستمرة دوماً بلا انقطاع ولا توقف ولا تراخٍ، حتى يصل بالإنسان إلى السعادة القصوى… لقد نظر الفارابي إلى العقل الفعال بوصفه جوهراً روحانياً… ومهمته البلوغ بالإنسان مرتبة السعادة حتى يوصله إلى أعلى درجات الكمال بطريقة حدسية صوفية، دون أن يؤدي هذا المنزع الصوفي إلى حتمية الاتحاد بين العقل البشري والعقل الفعال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن