ثقافة وفن

أبو تمام والحب

| إسماعيل مروة

حبيب بن أوس، بن ثدوس لا يهم، المهم أنه حبيب للشعر والقافية، حبيب للأدب، وبعد زمن من رحيله عشقه المعري أبو العلاء وشرح ديوانه الضخم وسماه ذكرى حبيب، فاستغنى عن أوس أو ثدوس، لم يعنه إن كان عربياً أو مولى، لم يكترث لإسلامه أو مسيحيته، يكفي أن النقطة الواصلة بينهما من معرة النعمان إلى جاسم حوران هي القافية الجميلة العذبة، والتفوق الشعري، بل أيضاً أستذة الشعر، ولاشك في أن أبا تمام هو أول من حمل لقب الأستاذ والأستذة في الشعر، فكان سيداً يعرف الشعر وقيمته وأهميته، يحدد ماهيته فلا يغرق فيما غرق فيه الآخرون..
حياة أبي تمام هي الحب بكل فاصلة تمثلها، وهو الذي علمنا معنى أن نحب حقيقة، وحدد الحب الذي يملك قيمة لأرض وديار وإنسان
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
الوطن حنين، وأول منزل، والحب ألفة والأول من الحب هو الذي يبقى منغرساً في الذاكرة، ويحار الإنسان في تحديد الحب الأول، لكنه كما يقول العارفون هو ذاك الحب الذي يحمل الدهشة، إنه كالعقيدة يأتي أولاً وإن جاء لاحقاً يلغ كل ما كان قبله، إنه الوعي بالحب والحالة، إنه نشدان المطلق والتماهي به، والذوبان على حافة انتظار ممضّ مغمّس بالحرمان.. أما أحرق طارق بن زياد مراكبه بالحب حتى لا يرجع خطوة إلى الوراء؟
الحب الأول هو ذاك الذي يستبيك فيكون رحمك الأول، والغذاء الأول والإضمامة الأولى، حين تفتح عينيك وتسأل: أين كان هذا؟ وهل كان ما قبله شيئاً مذكوراً؟
قد يكون الأول حباً هو لحظة الفراق
قد يكون الأول هو لحظة الانعتاق
قد يكون وقد يكون
فإن كنت في قلب الدهشة فأنت الأول وهو الأول
ولا أول قبل، ولا لاحق له
ابو تمام بقي على حبه الأول لم يحد عنه، لذلك عندما عابثته إحدى الغواني في مرحلة متقدمة من العمر لم يجد غضاضة بأن يقول لها: ليس لدينا للعشق وقت! استهلكه الحب ذات زمن فلم يبق منه الحب الأول مزيداً يمكن أن يهبه لعابرة قادمة.. والحب عند أبي تمام لامرأة وإنسان كان عقدية، فها هي صداقته التي صارت مضرب المثل مع الشاعر المهم الكبير علي بن الجهم، على ما بينهما من خلاف في العمر والأستذة والطبيعة تعد مثالاً للصداقة والحب، فأحدهما بدوي صرف، وشعره يعبر عن حاله في السليقة والطبيعة، والثاني منهما أول من فتح طريق الصورة والبيان في الشعر، وما بينهما من اختلاف لم يتحول إلى خلاف، بل صار ضرباً من الحب والوفاء النادر المثال، فحين مال أبو تمام إلى التشيع بتأثير رحلاته وقناعاته وصداقاته لم يؤثر هذا في صداقته لعلي بن الجهم الذي بكى أبا تمام بأبيات يصف فيها الشعر وقد غاضت ينابيعه بموت أبي تمام، والحب قرّبه من البحتري فأعطاه وصيته النادرة في الشعر العربي بين شاعرين، بل الحب هو الذي جعل أبا تمام يوصي بأبي عبادة البحتري لدى الحكام والخلفاء..
والحب الأكثر سمواً في حياة أبي تمام كان للشعر والحرف والقافية، وها هو في رحلاته تحبسه الطبيعة عن متابعة مسيرته، فيختار الحرف والقافية، ويسترجع ذاكرته والكتب، ليصنف كتاباً هو الأول في بابه في المكتبة العربية، وهو كتاب «الحماسة» فقد قبع أبو تمام بالحب وقتاً طويلاً، وهو ينتقي ويسترجع ويصنف ويبوّب، ويطلق التسميات الجديدة المستحدثة على ما أراده وجمعه، والحب جعله لا يكتفي بالقدماء كما فعل سابقوه من المصنفين، بل وسّع دائرته، فكانت حماسة أبي تمام فتحاً أدبياً وشعرياً وتأليفياً لم يسبق إليه، صنفه بالحب وحده، لذلك تهافت كبار العلماء على الشرق والغرب للعناية به، ومن ثم اجتمع العلماء والأساطين والشعراء، ابتداء من البحتري ووصولاً إلى جمهرة الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، والتي لم تنجز بتمامها وصدر منها جزء واحد.
وقد أجمع العلماء قديماً على أن كتب الحماسات كلها جاءت تقليداً ومتابعة لما فعله أبو تمام، ولم تبلغ مبلغه، فهذه حماسة البحتري، وكانت قريبة الزمن، ومتابعة تلميذ لأستاذه، بقيت من دون حماسة الأستاذ في تصنيفها واختياراتها، مع أن البحتري حاول الإغناء.. وتلتها الحماسات الشجرية والبصرية والمغربية، وجميعها ليست بتلك المكانة التي أخذها الأستاذ أبو تمام..
الحب دفعه للتأليف، وتقليد النجاح والإبداع دفعهم
الجود بالشعر ومعانيه وصوره كان علامة الحب.
مات أبو تمام وبقي حبه
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
جرّب إن أردت، لكنه يعفي الإنسان من التجريب والندم
ما الحب إلا للحبيب الأول
الثبات على الحب والفطرة علامتان أرادهما أبو تمام..
والحب امرأة وحب أول
والحب وطن يحتوي هذا الحب وهذا الحبيب
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
اغترب تتجدد.. سافر حيث شئت، اسكن المنزل الذي يحتويك اصنع الألفة معه وبينك وبينه، لا يهم، كما يدفعك إلى أن تجرب حباً لتفهم أن الحب الأول هو الباقي، كذلك يدفعك أبو تمام لألفة المكان، في كلا الحالين الأول هو الباقي
الوجه الآسر الأول الذي جذب فطرتك
والمنزل الأول الذي شهد صرخة الوجود الأولى
من ذلك الرحم نزل
وتلك الأرض استقبلته
من رحم إلى امرأة
من امرأة إلى فضاء
من جاسم إلى بغداد إلى حمص وإلى مدائن الكون، وبقي الأول عنده،
الحب أول
المكان أول
المرأة وطن
والأرض وطن
نردد اليوم ما قاله أبو تمام، وخاصة عندما يستبد به الحمق فنستبدل الرحم الذي أخرجنا وطهرنا، ونفارق الأوطان والمنازل التي شهدت صرخاتنا..!
كان محباً وأعطانا تجربته الفنية..
ونحن ندور الكون ظانين أننا نبحث عن ذواتنا
وحين تدركنا الخيبة في كل شيء نستذكر فتى جاسم وحوران
نستذكر أبا تمام
ولكن ما كان أولاً هل يحتفظ بنا بعد العهر؟!
لا يعني إن كان ابن أوس أو ابن ثدوس، لكن الذي يعنينا
أنه دلنا على ذواتنا ومنازلنا، وحدد لنا رواسم الحب النبيل، الملون بصحراء وطهر روح.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن