ثقافة وفن

«صباح فخري سيرة وتراث» تخليد لصوت سورية الكبير … شذى نصار لـ«الوطن»: هو القلعة الثانية في حلب ويمثل التراث اللامادي مثله مثل زرياب والموصللي

| سارة سلامة- تصوير: طارق السعدوني

إنه صباح فخري الصوت الكبير، والقامة الفنية الموسيقية العملاقة، الفنان الذي لحن فأبدع، وغنّى فأطرب، ووقف فأطال وأجاد، وكان أهم من وقف على مسرح في الزمن وجودة الصوت والقدرة على التميز على طول الساعات.
صباح فخري الذي تعشّق النغم والموسيقا، فكان أن توجه بنداء «الله أكبر من المآذن» ليصل إلى ملكوت الله في نقاء صوت وإبداع كلمة.
غنّى للحب فلم يتهافت، وأخذته نشوة الصوفية فكان إماماً، وغنّى للوطن فكان سارية علمٍ في الفن والإبداع
ونادى الشهيد فجعل الشهيد حياً دوماً.
غنّى الفصحى فجعلها تدور على الألسنة، وكأنها كلمات شعبية يتداولها الناس، يرددها الكبار والصغار، النخبة والعامة، ولا تحلو الجلسات من دونها، ولم يتذكر أحد أنها فصحى!
وغنّى العامية فارتفع بمقدارها لتخرج من إطارها الشعبي إلى مصاف الطرب الراقي العظيم!
غنّى القديم والحديث من مسكين الدارمي إلى زماننا، وفي كل ما غنّى تحول الكلام إلى تنفس صباح فخري وحده.
أخذ بسطة في العمر، أطال الله بقاءه فحجز للأغنية السورية مكاناً لائقاً بها وعزز مكانة القد والدور والقصيدة والموشح والشعبي، وكان سفيراً فوق العادة لسورية.
من دمشق مهوى فؤاده ينطلق الاحتفاء به وبتراثه في حفل يليق بالكبار في مكتبة الأسد الوطنية بحضور رسمي وفني وإعلامي و وجود عدد كبير من محبيه، فتطلق الباحثة السورية شذى نصار في كتاب صباح فخري «سيرة وتراث» إلى سيرة حياة قامة كبيرة وارتباطها بالتراث والحفاظ عليه، والبداية كانت مع فيلم قصير تضمن مراحل متعددة من حياته، وبلقاء تلفزيوني قديم، يحكي فيه عن القواعد وأسس الموشحات والأدوار.

فلسفة خاصة

وفي تصريح للصحفيين أكد وزير الثقافة محمد الأحمد أن: «أهمية صباح فخري لا تكمن باعتباره واحداً من أكبر مطربي الوطن العربي على مرّ العصور، وتشاركه أسماء كثيرة من المغرب وتونس ومصر ولبنان وسورية، بل تأتي أهميته لأنه يمتلك فلسفة خاصة فيما يتعلق بالغناء، وعابه بعد النقاد لأنه التزم طوال مسيرته بالتراث، ليتضح خلال الوقت أن خيار صباح كان صائباً. ولولاه لكان هناك ضياع لقسم من التراث العظيم الذي نفخر به».
وأضاف الأحمد إن: «صباح من المطربين القدماء القلائل ليس في سورية والوطن العربي فقط بل في العالم بأثره. الذي يستطيع غناء عبارة مكونة من ثلاث أو أربع كلمات ويرددها على مدار ساعة أو ساعتين بنغم من هنا ويزيد من هناك، من دون أن نشعر بالملل من ترداد العبارة، وفي ذلك قوة كبيرة ليس للصوت فقط إنما في القدرة على التواصل مع مستمعيه والحاضرين، ربما أيضاً يكون الوحيد في العالم الذي يستطيع الغناء لأكثر من ١٠ ساعات متتالية. وحقق بذلك رقماً قياسياً. وعندما يفرغ من حفلته تكون شمس الصباح قد أطلت فينتهي الرواد من حفلته ليتناولوا الفطور، باختصار هذا صباح فخري وهنا أهميته التي لا تنبع من صوته وتاريخه وحضوره فحسب بل من سمو الرسالة التي عاش لأجلها».

القلعة الثانية
وفي تصريح خاص لـ«الوطن» أكدت الكاتبة شذى نصار أن: «الكتاب يتطرق لحياة صباح فخري منذ طفولته المبكرة حتى شيخوخته المهيبة. وكل ما ذكرته يتضمن دراسة عن التراث. وكل البيئة المحيطة فيه والأشياء التي ساعدته في تقديم كل هذا الإبداع، والمحطات التي مرّ بها وكيف عمل منذ أن كان طفلاً كرجل وحقيقة كان (الطفل الرجل). ويقوم بتثقيف نفسه منذ خمس سنوات وتمرس بالغناء والإنشاد. وأيضاً عملت حواراً معه فيه أكثر من مساحة الكتاب. وتطرقنا إلى كل شيء في حياته، فلسفته وإيمانه ونظريته بالحياة وتصوفه وثقافته ويثقف نفسه بنفسه وحفظه قصائد عديدة عبر مخزونه اللغوي الكبير والثقافي العظيم».
وأفادت نصار: «قضيت 4 سنوات في كتابة وجمع معلوماتي وخرجت بكتاب له أهمية كبيرة للتراث وللوطن ولسورية ولحلب بالذات. ولكوني امرأة حلبية أعتبر صباح فخري القلعة الثانية بالنسبة لي. فصباح يمثل التراث اللامادي مثله كمثل زرياب والموصللي. فهو إنسان لن يتكرر ربما إلا عبر مئات السنين. ومن الجميل والحظ الوفير أن نتواجد بعصر العمالقة مثل (صباح فخري، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب). ونهتم بتعريف الجيل الصغير بالتراث الرائع والموسيقا الجميلة والأصوات العظيمة مثل صباح فخري في فترة تشهد هبوطاً في الفن».

علّامة موسيقية
وتحدث الموسيقار أمين الخياط عن العلاقة التي جمعته بالفنان فخري قائلاً: «بدأنا عبر برنامج مع (الموسيقا العربية الذي عرض سنة 1964) وقدم فيه صناجة العرب موشحات وقصائد في غاية الجمال، اشترك مع ملحنين سوريين آخرين في تلحين ثلاثين موشحاً وقصيدة شداها فخري بصوته في مسلسل الوادي الكبير الذي لعب بطولته مع المطربة الراحلة وردة الجزائرية، وهو ليس مجرد مطرب بل إنه علامة بالموسيقا يعي طريقة الإلقاء وطريقة اللفظ بالغناء وهذه يجهلها الكثير من الفنانين الحاليين، وكان مدرسة وربَّى أجيالاً وأجيالاً وإلى اليوم لينهلوا مما قدمه فخري».

القلعة الشامخة
المؤرخ أحمد المفتي لم يجعل هذه المناسبة تدركه من دون ترك بصمة خاصة به من خلال كتابة قصيدة خاصة بالمناسبة قال فيها: (امنحوني شيئاً من التقدير في حياتي وليس بعد مصيري.. وغباء بأن تحط زهوراً فوق قبري الآن هاتوا زهوري.. كيف أرضى زهراً ولست أراه أنا تحت التراب تحت الصخور.. عبثاً تعلمون يا قوم يا عباد جاه أو ثروة وقبور تمدحون الأموات والمدح بعد الموت يأتي نوعاً من التبرير.. كرموني حياً ولا تمدحوني ميتاً واسمحوا بقوتي الضروري».
وفي كلمة ألقاها أمام الحضور قال المفتي: «حكاية حمل دام أربع سنوات جاء بعدها المولود سفراً رائعاً رائقاً، تكلم هي حكاية الأديبة شذى نصار مع مطرب لم يعرف تاريخ الغناء العربي ملكاً تربع على عرش التراث غيره. ذلكم هو صاحب الصوت القادر الذي يحملك من التحلي إلى التجلي فتصل أحاسيسك بمعالم إدراكك إلى معالم لا يترجمها بيان صوته السحر إذا الليل انتشى صادحاً (يا خمرة الحب اسقيني).
لقد مر بحلب مطربون كبار غنوا للتراث أحمد الفقش ومحمد نصار وأديب الدايخ وصبري مدلل ولكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه صباح ولم يغنوا من التراث إلا القليل، من هنا تألق صباح بحنجرته الذهبية وصوته الماسي وأدائه الخارق لجميع أنواع التراث من موشحات وقدود وقصائد مرتجلة وملحنة وأدوار وطقاطيق وأغان معاصرة حيث غدت جزءاً من التراث لشعبيتها وخلودها. وقد يتساءل المرء كيف لهذه القدرة الإبداعية أن تلم بفنون الشعر والآداب واللغة والغناء وحسن الأداء. ولو مضيت مع الأديبة شذى في كتابها كما مضيت حين كنت أسترق السمع كلمة كلمة منذ أن بدأت التدوين لأدركت عظمة هذا الصوت القادر والقلعة الشامخة في تاريخ الفن».
وأوضح المفتي أن: «صباح تربى في بيت رجل دين وقور هو والده الشيخ محمد أبو قوس صاحب الطرق الصوفية الأربع، صاحب الطريقة القادرية التي كان يميل إليها وصاحب الرفاعية والدسوقية والبدوية فقرأ صباح القرآن الكريم على عينه مع أحكام التجويد وتنقل مع أنغام المتصوفة في الزوايا وحفظ مختلف ضروب الإيقاع من ضرب الدفوف واكتسب من عمر البطش ومصطفى الطراب وصبحي الحريري وبكري الكردي مختلف علوم النغمات والأوزان وتعلم عزف العود على يد الشيخ نديم الدرويش، ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره التقى أمير الكلمات الشهير سامي الشوا الذي هام بصوت صباح وأراد أن يأخذه لمصر، لكن الزعيم فخري البارودي المبهور بصوت صباح كان أسبق من الشوا حين ألحقه بالمعهد الموسيقي الشرقي، وكان أن تعلم على يد عمر البطش الإيقاعات والموشحات ورقص السماح وفن غناء القصيدة والأدوار».

توثيق مرحلة كاملة
بينما يبين أنس نجل الفنان صباح: «منذ عام 2001 كنت أسعى إلى هذا المشروع، وعملت على أفكار أكبر من ذلك. وواحدة من هذه الخطوات المعهد الموسيقي في حلب والخطوة الثانية هي الكتاب، وحقيقة الكتاب مهم لأنه يوثق حياة الأسطورة صباح فخري، ويوثق مرحلة كاملة بكل تفاصيلها وأخذ من مصادر حية سواء من صباح نفسه أم والدتي وأصدقائه والناس المقربين له. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب كوثيقة وحفظ لقامة كبيرة في حياة سورية الفنية. وهناك كتاب آخر سيضم كل ما غناه تقريباً».

تتويج لمسيرته
وبدوره قال طريف فخري إن: «صباح بكل موضوعية هو نتيجة الجهد والعلم الذي بذله إلى أن وصل إلى هذه المرحلة، وساهم في حفظ التراث السوري وحمل اسم سورية إلى كل العالم رافعاً علم بلده في كل الحفلات والمهرجانات. لذلك لا شك أن هذا الكتاب جاء تتويجاً لمسيرته الطويلة التي امتدت لسبعين عاماً أو أكثر، هو شعور عظيم ونتمنى أن يكون هناك جهود أخرى، ويمكن أن يكون الكتاب الأول عنه ولكن بالتأكيد ليس الأخير، لنعزز مكانة سورية وصمودها وفنها».

يرتبط اسمه بسورية
الإعلامي رفيق نصر اللـه دفعه غرامه بصوت هامة كبيرة إلى تجاوز الحدود ومباغتة الزمان والحضور في حضرة الكبير قائلاً: «للفنان صباح فخري دور في إحياء التراث الموسيقي السوري. وتشرفت بمتابعة هذا الكتاب منذ الصفحة الأولى إلى هذه اللحظة وتوقيعه، والحقيقة يعدّ كتاباً قيّماً جداً وجاء في توقيت مهم. ومن غير شك أن الفنان صباح يحمل قيمة فنية كبيرة ليس على مستوى سورية فقط إنما على مستوى العالم العربي فهو أحد العوامل المضيئة والمشرقة في التراث الفني العربي. وجاء الكتاب ليعطيه بعض الحق، وهو يحتاج الكثير من الكتب لإرواء سيرته العظيمة الذي حافظ فيها على الإرث الفني والثقافي وقدم إبداعات كبيرة جداً، وبالتالي من المفترض تكريم هذا الرجل الذي يرتبط اسمه باسم مدينة حلب ومن ثم بسورية. ومن ثم بالخارطة الفنية الجميلة في عالمنا العربي، وفي هذه اللحظة التي نكرم فيها صباح تشكل رداً على المستوى المنحدر للفن العربي الآن أو ما تبقى منه، وشيء محزن أن هذه القامات الكبيرة لم يأت جيل مشابه لها. ربما لأن الجبل لا يلد جبلاً ولكن في النهاية عند لفظ اسم صباح فخري نقول سورية وحلب والفن الأصيل الموشح وكل هذا التراث الجميل الذي سيبقى في ذاكرتنا».
ويضيف نصر الله: «الحقيقة كان لي شرف تحريض الكاتبة نصار على الكتابة منذ استمعت إلى نص قصير أذهلني كلغة وصور وذاكرة وعندما رمت بفكرتها للكتابة عن فخري سارعت إلى ممارسة الإصرار على أن تبدأ بكتابة توثيقية وكلي ثقة أنه سيكون مميزاً وكنت متأكداً أن ما ستكتبه سيكون له الأثر اللافت في تناول هذه القامة الفنية المشرقية».

جيل العمالقة
أما الفنان مصطفى الخاني فقال: «ماذا نقول عن قامة موسيقية وفنية كبيرة»؟
ربما أكثر ما يرادوني الآن أنني محظوظ بوجودي في جيل عاش فيه صباح فخري هذه القامة الكبيرة التي تمثل جيل العمالقة مثل (أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز ووديع الصافي) وهو من بينهم. ولا شك أننا مقصرون من جانب التوثيق لمبدعينا ومن جانب العمل الوثائقي بأن يكون هناك كتب وأرشيف، وهذا التكريم يعتبر خطوة مهمة جداً. وخاصة أنه في حياته، نحن بحاجة أكثر للاهتمام بمبدعينا. ولننعم بغد أفضل يجب تسليط الضوء على القدرات الكبيرة الاستثنائية والقليلة مثل الأستاذ صباح فخري».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن