ثقافة وفن

عمر بن الفارض والحب

| إسماعيل مروة

«كان ابن الفارض في غالب أوقاته دهشاً شاخص البصر، لا يسمع من يكلمه ولا يراه، وقد يكون وهو على هذه الحال واقفاً أو قاعداً أو مضطجعاً أو مستلقياً كالميت، لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يتحرك، وريما مرّ عليه في هذه الحال أيام، قيل كانت تبلغ أربعين يوماً أحياناً، وبقي مرة واحدة خمسين يوماً صائماً» إنه الحب الذي هام به، وتعلقّ به، وأعطاه ذاته لأنه لا يرغب بذاته لذاته، وإنما لذات أخرى هام بها، وتوحّد بها غاية التوحد فرأى وقال ووصل إلينا في تصوير مشهديته التي لا يصل إليها الحدّ العادي لإنسان ما عرف ما عرفه ابن الفارض، ولا عاش ما عاشه.. ولم يكن هذا الوصف الذي وصف به ممن رآه وعرفه وعايشه، ووصل إلينا لولا ما عاشه ابن الفارض بخصوصية المحب الواهب والموهوب..
إنها الدهشة، فهو في غالب أوقاته دهش، ولولا الدهشة ما كان لابن الفارض أن يكون محباً، فالدهشة والذهول فيمن يحب وفيما يحب، جعلاه في مرحلة عليا من الانعتاق والذهول، وجعلاه يسكن دنيا أخرى لا يسمع ولا يتكلم ولا يعي، في كل حالة كان عليها، وما صومه كالصوم، وما ذهوله كالذهول، وما دهشته كالدهشة.. إنه المأخوذ من ذاته، الموهوب بتمامه، وهو الذي أحرق ذاته ومراكبه، وركب مركب العشق الإلهي، بعملية أنسنة عالية لحالة لا يمكن أن تكون مؤنسنة بحالة من الحالات، ليتماهى عمن يكلم ويبقى في عالم آخر مع من وهبه ذاته وعقله، وهو محجوب عنه لا يراه وراء غلالة اليقين بحب يسمو حتى إن تحول إلى حرمان وغطته نبوءة الأضحية ودم الذبيح، فدونه المهامه والمسافات البعيدة غير المعقولة التي يعجز المرء عن تصورها، وهو يرى الحياة متعة وزاداً لما بعد! أما ابن الفارض عمر أبو حفص، فقد جاء بما بعد لما قبل، ودهش وذهل حين اكتشف ذات مساء أن الذهول حياة، وأن الدهشة تستحق أن توهب لها الحياة، وهو غير عابئ بما يمكن أن يكون، وبما سيصل إليه من نتيجة، لأنه يملك ذاته، ولأنه يحمل يقينه، فقد وهب ذاته لدهشة، وهو وحده يعلم أن صومه لا كالصوم، وأن ذهوله مربوط بوجوده في رحم المشهد المشتهى الذي ينكشف له بالبصيرة والبصر، ولم ينكشف لسواه..
«واللهُ يتبدى لكل محب في محبوبه، فإن مجنون ليلى قد أحب الله في صورة ليلى، كما أن ليلى قد أحبت الله في صورة قيس، وبما أن قيساً لم يحب إلا الله لمّا أحب ليلى، وكما أن ليلى لم تحب إلا الله لمّا أحبت قيساً، فإن قيساً قد أحب في الحقيقة نفسه..».
الله والحب والصورة.. فلسفة الحب عند ابن الفارض الذي يرى أن يحب من جعله الله على صورته، وأن تكون صورة الآخر انعكاساً لحب الله في الآخر، وحين يتطابق الحبان، فإن الإنسان يصل إلى جوهر الحب في أن يبدأ من حيث ينتهي، يبدأ من حب ذاته ونفسه..
فإن أحب الإنسان نفسه أحب الآخر
وإن تماهى في الآخر أحب الله.
وإن أحب الله أحبّ نفسه
من النفس يبدأ الحب عند ابن الفارض، لذلك كانت الدهشة، ولذا كان الذهول، ولذا كان الانعتاق عن كل مادة تحيط به من صوت وصورة وطعام وشراب، فهو في مقابل ذاته التي عشقها، والتي وهبه الله ميزة حبها ليحب الآخر، وما بين ذاتين، ذات إلهية وذات بشرية يفلسف ابن الفارض الحب والتماهي، لتصبح حالة الحب في الحضور والغياب واحدة، وفي التجلي والاحتجاب واحدة، فلا يحتاج المحب إلى لحظة لقاء مع من يحب، فهو يسكنه وِإن تطاول العمر، وهو قادر على الانسراب فيه كما يتشهى، وكما يفهم الحب الإلهي، المنبعث من دنوٍ إلى سمو.
هو الحب فاسلم، بالحشا، والهوى سهل
فما اختاره مضنىً به وله عقل
وعش خالياً، فالحب راحته عناً
وأوله سقم وآخره قتل
نصحتك علماً بالهوى والذي آرى
مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
أحباي أنتم أحسن الدهر أم أساء
فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخلّ
الحب ليس خياراً، ولو كان خياراً ما اختاره ذو عقل، والحب عند ابن الفارض وعي وسعي إلى النهاية، فهو عذاب وضنىً لا يختاره عاقل، أما المحب، فهو الذاهل المدهوش الذي لا يملك قراره، وفارقه عقله، لذا يرجو من العاقل مخالفته فيما يدعوه إليه قبل أن يفقد رشده وعقله، فقبل الوقوع في شرك الحب بإمكان العاقل أن يختار ما يحلو له.. قد يرى أحدهم أن ابن الفارض يدعو إلى التخلي عن الحب، لكن ذاك ليس حقيقة، فقد وضع الخيارات، وكأنه ليقول لمن يتجهز للحب، والحب الإنساني كما قال في نثره، حب الله في الآخر، وحب الذات فيمن يحب.. أن للحب لوازمه وشروطه وحالاته المرهقة، على المرء أن يتجهز لها ليكون محباً حقيقياً، وأن يدخل في جوهر الحب، وابن الفارض يسلّم بأنه تخلى عن ذاته لمن يحب، فهو الخلّ..!
هذا أنا فاختر يا ذا العقل ما تشاء!
هذا هو الحب الذي يتجلى عند الأخلاء!
هذا هو الحب الذي يصل الدهشة والتلاشي فيمن نحب
قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرف
يا أهل ودّي أنتم أملي ومن
ناداكم يا أهل ودّي قد كُفي
عودوا لما كنتم عليه من الوفا
قدماً فإني ذلك الخل الوفي
وحياتكم وحياتكم قسماً وفي
عمري بغير حياتكم لم أحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها
لمبشري بقدومكم لم أنصف
لا تحسبوني في الهوى متصنعاً
كلّي بكم خلق بغير تكلف
الذهول والانعتاق وراء هذا الخطاب الذي ينمّ عن وعي ومزج بين حب الإنسان للإنسان في صورة إبداع الخالق، ولا يدل على خطاب للذات الإلهية بالشكل المباشر يتحدث ابن الفارض، ليدل على تأدبه وإقراره بالمسافة الفاصلة سمواً ومكانة وزمناً، ويتعلل بالوسيط في الحب الذي كان له خلاً وفياً، به يقسم، وله يمنح كله، وبالمزج بين نثره وشعره نفهم نسبة المعرفة في قوله:
عرفت أم لم تعرف..!
ومثل هذا لا يتوجه به إلى الذات الإلهية، لأنه لو فعل لم يكن متماهياً في الحب وفيمن يحب، لكنه من نثره يخاطب ليلاه التي أحب الله فيها، وأحب ذاته فاستغنى عن كل ما يشغل العقلاء الذين استطاعوا الابتعاد عن الحب.. حب ابن الفارض حب صوفي أسطوري لو كان موجوداً فما عرف الإنسان غير التقديس الذي يستحقه، لأن حب الله من حبه:
سقتني حميّا الحب راحة مقلتي
وكأسي حيّا مَنْ عَنِ الحب جلتِ
فأوهمت صحبي أن شرب شرابهم
به سرّ سرّي في انتشائي بنظرة
فلو قيل من تهوى؟ وصرحت باسمها
لقالوا كنّى أو مسَّه طيف جُنةِ
أغار عليها أن أهيم بحبها
وأعرف مقداري فأنكر غيرتي
وما زلت إياها وإياي إن لم تزل
ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحيتِ
التوصل بالتوسل، ومن الآخر إلى المطلق، والغاية ذات بحب ذاتها تتطهر وتصبح أكثر نبلاً وعظمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن