قضايا وآراء

«إلهي أقم الساعة»!

| عبد المنعم علي عيسى

في وقت كانت فيه مدينة اللاذقية تودع إلى جنان الخلد السيدة جاكلين بيطار، خطيبة جول جمال الأبدية، محيلة عبر هذه الصفة الأخيرة التي حملتها كل صنوف الوفاء التي عرفها العرب إلى التقاعد، ولم لا؟ فمن يملأ الفراغ الذي خلفه عريس الحلم الذي قال لجمال الدسوقي قائد البحرية المصرية عندما اعترض على مشاركته بالتصدي للعدوان على مصر بذريعة أن القوانين لا تسمح بمشاركة غير المصريين يوم 4 تشرين ثاني1956: «عندما أرى شوارع الإسكندرية كأني أرى شوارع اللاذقية، وفي وقت المعركة لا فرق بين مصري أو سوري»، ثم مضى بطوربيده الجسدي نحو «جان بارت» لإغراقها، في ذلك الوقت، وقبله، كانت تقارير تجوب العالم، بعضها يشكك وبعضها يؤكد، منع القاهرة ناقلات نفط متجهه إلى الشواطئ السورية من المرور عبر قناة السويس، في خطوة لم يسجلها التاريخ المصري القديم ولا الحديث، وأقل ما يقال فيها إنها مشاركة في قهر شعب تكالبت عليه أصقاع الأرض من أقصى مغاربها إلى أقصى مشارقها بغية كسر إرادته وإركاعه، وإذا ما كان ذلك كله معطيات تدعمها مؤشرات لا دليل قاطعاً عليها، فإن ذلك لم يعد قائماً كما كان عليه في السابق بعد تقرير «الواشنطن بوست» في 15 نيسان الجاري الذي أكدت فيه نجاح ضغوط وزارة الخزانة الأميركية على مصر في منع عبور ناقلات النفط المتجهة إلى السوريين.
بهذا التأكيد، الذي لم ترد القاهرة عليه، تسجل السياسات المصرية انعطافة خطرة لم تسجلها العلاقة بين البلدين منذ أن تكونت نظريات الأمن القومي المصري بفعل عوامل التاريخ وعوامل الجغرافيا قبل عشرات القرون، إلا أن ملامحها الراهنة كانت قد تبلورت منذ غزو هولاكو للمنطقة بادئا ببغداد 1258 م ومتابعا نحو دمشق والقاهرة، سجل ذلك، ومن بعده غزو العثمانيين لسورية ثم مصر 1516-1517 على التوالي، إدراكاً يغوص في ذات شعب النيل مفاده أن أمن مصر يبدأ من دمشق، وقبل ذلك كله كانت الأحداث السابقة للحدثين السابقين قد اختزنت في تلك الذات أن المسيحية وكذلك الإسلام ومعه اللغة العربية بكل حمولاتها قد جاءت كلها من دمشق، الأمر الذي أدركه محمد علي باشا وأقام مشروعه الكبير مطلع القرن التاسع عشر عليه، وفي التاريخ الحديث كانت الناصرية تتويجاً لكل تلك التراكمات، وهي في أوج صراعها مع نظام الحكم القائم في سورية ما بعد العام 1963، وفي الوقت الذي كانت فيه إذاعة صوت العرب تلعب دور منبر لا يكل ولا يمل في مهاجمة ذلك النظام، كان صانع القرار السياسي في القاهرة مدركا لأهمية بقاء الأمر في حدوده السياسية فلا ينتقل إلى النسيجين المجتمعي – الحياتي والثقافي، ولم تنحدر آنذاك غرف صناعة القرار في القاهرة نحو مدارك كتلك الحاصلة الآن، والتي ستشكل من دون أدنى شك مفترق طرق للمصريين قبل أن تكون للسوريين.
ودّعنا نحن «جاكليننا» التي تاقت روحها إلى حبيبها بعد فراق طال أمده لثلاث وستين عاماً، وهي ستخبره بالتأكيد بما سمعت، حالها حال ذلك الطفل السوري الذي كانت آخر كلماته التي قالها قبيل أن يلتحق بالبارئ إنه «سيخبر اللـه بكل شيء»، أما نحن فسنمضي في تضميد جراحنا، وسننجح في مهمتنا تلك إذ طالما أضحى كل بيت سوري غرفة إسعاف متنقلة، بل البعض مشفى ميداني متعدد المهام، نحن الذين قال فينا مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي العام 2014 ريتشار هاس، والأمر يسجل هنا تبعا لأهمية منصبه ولما يمثل وليس لشخصه: «إن الأموال التي صرفت لانشقاقنا عن الدولة والنظام كانت كفيلة بانشقاق الملائكة عن الله»، ولن يتغير لدينا الكثير بينما المنتظر أن يكون هذا الفعل الأخير في الضفة المقابلة التي أمعنت في توجيه طعناتها إلى أجسادنا حتى تكسرت النصال فيها فوق النصال، وإذا ما كانت اليمنية الفائزة بجائزة نوبل للسلام، توكل كرمان، قد قالت في تغريدة لها في أعقاب إعلان ترشح الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة: «إلهي أقم الساعة»، فبماذا يجب أن يغرد السوريون بعد سماعهم تأكيد «الواشنطن بوست» الشديدة الالتصاق بغرف صناعة القرار الأميركي؟ ألا يحق لهم القول: إلهي لما أقمت الساعة؟
بات من الراجح الآن أن تشهد الأزمة السورية فصولاً ساخنة فيما يخص الجانب الاقتصادي، وكذا الأمر في الجانب السياسي الذي سيشهد بعد أيام استحقاقا مهماً لم تتراءَ معالمه بوضوح حتى الآن. فمع حلول 30 نيسان سيدخل الشمال والشرق السوريان مرحلة المجهول، في وقت لا تزال فيه كل من باريس ولندن تقبعان على دكة الانتظار بشأن الطلب الأميركي الرامي إلى إشراك قوات أوروبية لمساندة 400 جندي أميركي كان قد تقرر بقاؤهم، والأمر، وفيه ما يدعو إليه، قد يطول، خصوصاً أن مخاوف جمة تحيط بالسلوك الأميركي، فمن يضمن لأولئك، أي للفرنسيين والبريطانيين، ألا تنقل إليهم صفحة الرئيس الأميركي على تويتر هكذا فجأة ومن دون مقدمات خبراً مفاده أن هذا الأخير يرى أن لا لزوم في المرحلة الراهنة للابقاء على أي وجود عسكري أميركي في سورية، وذاك حساب واقعي في ظل توجهات واشنطن نحو جنرال من نوع آخر هو الدولار، وفي ظل حالة التشاد القصوى بين المؤسسة العسكرية وبين البيت الأبيض، وهذي المخاوف تزداد في ظل عدم وجود رسم واضح للدور الذي يمكن أن تقوم به أنقرة في الوقت الذي تشهد فيه العلاقة الأميركية التركية أقوى منازلة لها منذ انضمام أنقرة إلى الحلف الأطلسي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وهي، أي تلك المشادة، من المقدر لها أن تشهد فصولاً متعددة ومتقاربة من الضغوط الأميركية على الأتراك لحسم شكوك أميركية لا يبدو أنها وصلت في قرارة نفسها في تحديد إذا ما كانت أنقرة تناور في علاقتها مع الروس أم إن الأمور معهم وصلت إلى حدود اللارجعة، وفي هذا السياق ينتظر أن يكون رهان الروس الأكبر في المرحلة المقبلة على النجاح في اجتذاب الأتراك إلى صفوفهم عبر الإغراء والتلويح بالمكاسب ما سيؤدي إلى اختلال عمل « نور سلطان» بعد أن ودعت هذي الأخيرة اسم «أستانا» والراجح ألا تحقق جولة هذي الأخيرة المقبلة في 25 و26 الكثير، بل من الجائز القول إن توقيتها جاء في وقت غير مناسب على الرغم من أنه يلحظ قرب استحقاق مهم يمثله موعد الانسحاب الأميركي.
هناك فعلا تخوف حقيقي في أوساط السياسة الأميركية الفاعلة من أن العلاقة الروسية التركية قد تعدت مرحلة كبح جماحها، على حين أمكن للبعض رصد ذلك التحول الذي أدى إلى الوصول إلى هذه النقطة في انقلاب 15 تموز 2016 والموقف الروسي الداعم للرئيس رجب طيب أردوغان فيه مقارنة بموقف واشنطن المتهمة بإيواء فتح اللـه غولن الذي تقول أنقرة إنه كان وراء الانقلاب السابق الذكر، صحيح أن هذا التشخيص يعزو تردي العلاقة إلى طبيعة نظام أردوغان واحتياجاته بما يتعارض اليوم مع متطلبات واحتياجات الدولة التركية العميقة، إلا أنه في حسابات السياسة لا يمكن إغفال أن الحالة الأولى هي حالة أمر واقع ويجب التعاطي معها على هذا الأساس ما بقي الأمر كذلك، ولذا فإن من المتوقع أن تذهب واشنطن إلى تطبيق أقصى القوى التي تستطيع مكابسها تحقيقها على الجسد التركي بغية إخراج ما تحتويه أعماقه إلى السطح سريعاً، وما الضغوط الاقتصادية التي ظهرت آثارها على ذلك الجسد سريعاً إلا جزء مما تحتويه الجعبة الأميركية بينما الملحقات كثيرة والظاهر منها حتى الآن هو التلويح باستبدال الدور التركي عبر منحه لليونان، وكذا التهديد بتوحيد الجزيرة القبرصية، وكلا الحدثين سيكون شديد التأثير في محاولات أنقرة لتحقيق مكاسب نفطية يمكن لها أن تعوض جزءاً من خسائر الاقتصاد السابقة واللاحقة المؤكدة، سيجري هذا كله بالتأكيد إذا ما قررت أنقرة رمي بيضها كله في السلة الروسية، لكن إذا ما قررت أن تفعل ربما لن يكون هناك من دافع أكبر له سوى وعود بتحقيق حالة «انتفاخ» جغرافية على حساب الجار السوري.
يبدو من الراجح الآن أن رهان الأكراد السوريين وفي ظل عدم حدوث توافقات على ملء الفراغ الناجم عن قرار الانسحاب الأميركي، يقوم على أن واشنطن وفي ظل عدم نيتها التخلي عن ورقة الشمال السوري كورقة ضغط لازمة على طاولة التسوية فإنها قد تلجأ ما بعد 30 نيسان إلى فرض منطقة حظر جوي في الشمال والشرق السوريين على غرار ما فعلت في الشمال العراقي العام 1991، وهو ما يمكن تلمسه في رد جيمس جيفرسون المبعوث الأميركي الخاص بالأزمة السورية على تهديد الدار خليل 18 شباط الماضي بالذهاب نحو دمشق وموسكو إذا ما تخلت واشنطن عن دعم قواته، حينها رد جيفرسون بالقول إن اتفاق الأكراد مع دمشق أو موسكو سيعني سحب الدعم الأميركي لهم، والتقدير الكردي هنا هو أن سحب الدعم المرتبط بعدم وجود نيات أميركية في التخلي عن الشمال السوري سيؤدي بالضرورة إلى التفكير بطريقة ناجعة أخرى قد لا تتوافر إلا في نموذج الشمال العراقي الحاصل ربيع العام 1991 وصيفه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن