ثقافة وفن

بين السماء والأرض

غسان كامل ونوس :

تعتقد أحياناً، بوجودك في موقع ما؛ متحمّلاً مسؤوليّة، أو معتلياً كرسيّاً، أنّك منتمٍ إلى كيان فوق أرضيّ، وحيّزك الذي تسود فيه، وتميد، منبتٌّ عن أحياز البشر العاديّين، الذين يمكن أن يكونوا في مستويات دنيا، قد لا تُرى بالعين المجرّدة؛ إلا إذا كانت مطلوبة منهم أمورٌ تخصّك، أو كان لديهم ما يهمّك؛ لحماً أو عظماً أو رنيناً أو طنيناً.
وتظنّ أن ما يصلك بالأعلى كواكب أو نجوم أو أيّ أجرام أخرى، أو كائنات أخرى- مختلف عمّا يربط الآخرين (العوام)، إذا ما قُدّر أن تكون لهم علاقات بهم، وأنّ هذه (الكرامة)، لا تليق إلا بأمثالك وأمثال قليلين يشبهونك؛ -وهل لك من شبيه؟!- لهم مثل حظوتك، ولك معهم علاقات تواصل، تفرضها طبيعة الوجود المختلف في هذا المكان المختلف؛ مع أن الرياح التي تهبّ؛ حتّى في هذه المستويات العليّة، وقد تكون أحوج منها في طبقات الناس العاديّين، تؤثّر في هذه العلاقات، وتكاد تشابك الحبال (المَسَديّة)، التي تراها تشدّك إلى فوق، فيتعثّر نوسانك، وتضطرب مديات أرجوحتك، وتُضطرّ، قد تُضطرّ إلى الالتفاف أو الانزياح لفكّ الانعقاد أو الاشتباك مع من «ذهبت ريحُه»، أو تغيير طريقة الاتّصال أو أسلوب التواصل، مع الذين ظهرت فيهم بوادر تصدّع، أو نهضت لهم أجنحة، تستعدّ للتحليق. لكنّ نِعَماً كهذه لا تدوم؛ حتّى بالشكر، وأشياء أخرى. لكنّ ذلك قد لا يكون في حسبان المُنْظّرين؛ فحين يأتيهم النبأ العظيم، يجدون أنفسهم بلا كرسيّ أو أرجل، وبلا حبال تشدّهم إلى «يَذْبُل» أو سواه، وأنّ كلّ ما كان يبدو أمراسَ كتّان، لم يكن أكثر من حبال «العرمط»! حينئذٍ، سيكون عليك التوازن على الأرض، الأرض التي نسي تضاريسها، وتنكّر لدروبها، وتعالى على أشجارها، وتعامى عن مشاهدها طوال فترة العوم، الذي لم يكن يحسب أنه بلا قارب نجاة، أو ثياب غوص.
لن يكون الأمر هيّناً؛ ليس لأن الكائنات الأرضيّة ستنتقم، أو ستتعاضد لرفض هذا العضو المنبتّ، الذي بات كالغريب أو أظلمَ سبيلا؛ ولا لأن الأرض مشغولة عنه، أو ممتلئة بالمُرضيّين الأتقياء النبلاء؛ ولا لأن الماء لا يكفي، والهواء قد ينفد؛ ولا لأن اللغة تغيّرت، والمفردات تبدّلت، ولن يجد من يفهم عليه، لاختلاف المبنى، وارتباك المعنى؛ بل لأنه لم يُترك له ظلّ على الأرض، أو موطئ قدم يذكّر بالحسنى، ولم يفطن لمساعدة أو لمّة رضا، ولم تتحرّك ملامحه لشكوى أو ظلامة أو بؤس، ولم تُفتح مساماته لصدى أنين، أو مرارة زفير. لم يكن لحبل السرّة أثر، ولا للحليب الذي رضع ذِكْر. وهو لم يعد يملك، إذا ما كان يملك في الأصل، مقوّمات تبقيه كائناً متماسكاً، ولا خصالاً تقدّمه إلى استشعارات البشر العاديّين، الذين ما يزالون في الدروب إلى لقمة العيش المغمّسة بسوائل زكيّة، ساعين إلى إحساس بالكرامة والاعتزاز منشدّين، وإلى منابع الضوء والإشراق توّاقين؛ فقد نسي أنه من طينة هؤلاء، وتغافل عن جموحهم، وتمادى في التباعد عنهم، وتغاضى عن سلامهم، واستهان بآلامهم.
لقد اعتقد، ويعتقد، أنه بلا عودة إلى الأرض التي أنجبته، وأنّ أي خطوة تالية، أو رفّة جناح، ستكون باتّجاه الأعلى، الذي قد لا يحتاج إلى ذلك، ومتطلّباته اعتاد إياها، أو حفظها، ويمارسها بلا كلل.
لكنّه في ساعة تخلٍّ، لا بدّ آتية عاجلاً أم آجلاً، سيجد أنه على الأرض يسقط، والمظلّة- أو المظلات- التي كان يطمئنّ إليها، لم تُفتح؛ لأنّها لم تكن موجودة، أو لم يستذكرها، ولم يتذكّر ما يمكث في الأرض، في رحلة السقوط بين السماء والأرض غارقاً في الخيبة والندم، يرتمي تحت ثقله الذاتيّ، الذي تحجّر، أو وزنه، مع كلّ ما يحمل من مفاسد وجرائر وخيبات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن