ثقافة وفن

المفتي… صوت حق رمز لليوم والزمن القادم

إسماعيل مروة :

استغربت أن عدداً من أصدقائي أرسل لي في الأسبوع الماضي تسجيلاً للاطلاع عليه، ووجدت في التسجيل القادم من الجميع نص محاضرة سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون، وهذا النص موجود لدي، وقد أكون من أول من حصل على تسجيل منه بحكم علاقتي الوطيدة بسماحته والتي تمتد إلى عقود على خلاف ما بيننا من توجه ومكانة، وهذا ما زاد من قدره في روحي وعقلي..
ظننت أن التسجيل بسبب حصوله على جائزة في حقوق الإنسان، لكنني عرفت أن صاحب الاتجاه المعاكس وضع جزءاً من الكلمة ليسيء إلى سماحته فإذا بالتسجيل يعود إلى واجهة الأحاديث، ومن حق هذا الحديث أن يكون في الواجهة دوماً، بل أن يدرس وأن يكون منهجاً وآلية في التفكير والعقيدة والحديث إلى الآخر.
الذين أخذوا بما قدمه الاتجاه المعاكس يؤمنون بأن الإعلام لا ذاكرة له، ولكن عودة التسجيل تؤكد بأن الذاكرة كلها في الإعلام ولا يمكن أن يغيب شيء، ومن كان يشهر به صاحب الاتجاه المعاكس من حقه أن يفاخر، وهنا لا أتحدث عن القناة ومراميها، فذلك من فضلة القول، ولكنني أعيد إلى الذاكرة مثل ما أعاد هو سلسلة من المقالات المدحية بسورية وقيادتها، والدورات التدريبية التي أقامها في سورية لمصلحته قبل الأزمة إلى درجة صارت فيها سورية دار إقامته شبه الدائمة! ومن كان هكذا ليس من حقه أن يفعل ما فعل، إلا إذا كان مؤمناً بضياع ذاكرة الإعلام وهو واهم.
أعود إلى التسجيل الذي كان لحديث سماحة المفتي العام في البرلمان الأوروبي، والذي كان مثار اهتمام الجميع في الشرق والغرب، والذي كان أول حديث من عالم دين مسلم بهذا الوعي وهذا الشرح لنخبة السياسيين الأوروبيين، هذا الحديث الذي لا يزال مثار اهتمام في الغرب، وكان له أن يؤدي نتائج عديدة ومهمة لو وعينا أهميته، وهو الحديث الذي لم يخرج عن ثابت من الثوابت الدينية والقومية والسياسية، لكنه قدم فهماً سليماً متقدماً أشواطاً بعيدة عن الخطاب الذي كنا نعيشه عندما ألقاه سماحته.. هذا الحديث شكل البادرة الأولى على هذا المستوى المرموق والمسموع والقادر على التغيير، لكننا قضينا وقتنا نفنّد ما لا يستحق التفنيد، بل يستحق التطبيق والدراسة ويمكن أن يشكل منهجاً متقدماً.
ودخلت دوامة الربيع العربي، وفي سورية كان سماحة المفتي على رأس العلماء الذين وعوا الأزمة وحقيقتها، ونبه إلى أن هدم دور العبادة كلها أسهل عند الله من قتل روح إنسان، وبقي سماحته مرتبطاً بمجتمعه، وحده حمل ثوبه الأبيض وتوجه إلى الذين قاموا في وجه الدولة، وعقد معهم حواراً ومصالحة، سرعان ما تدخل الآخرون للنكث به، ولو قيض لهذه الزيارة التي قام بها إلى حوران أن تعطي أكلها لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
وحده سماحة المفتي زار المدن، وألقى المحاضرات، وعقد الندوات، وطرح المبادرات الوطنية، وكرّم الشهداء وأسرهم، واسى أمهات الشهداء وأراملهم وأبناءهم، كان سماحة المفتي على تواصل يومي ولا يزال بالناس، يشارك في التعازي لا يمنعه مانع، يقدم ما يجب عليه كأب روحاني لكل سوري، وإن كان أحدهم يرى في زياراته المتبادلة مع الكنيسة ورجالها شيئاً من المجاملة. فلا يمكن لآل حمصي من الإخوة المسيحيين أن ينسوا دخول عمامته إلى مأتمهم ومواساته، وهو ليس على علاقة بهم، وبمجرد أن سمع همسة من أحدهم بمصابهم كان موجوداً في العزاء، وكان خير العزاء..
لم يبرح سورية، وقد صرّح بأن أردوغان عرض عليه مغادرة دمشق، لكن قرر أن يكون أميراً في دمشق، ولأن دمشق المكان والتاريخ والإنسان عرفت قيمته جعلته أميراً حقيقياً..
نبذ التطرف والعنف
آثر الانتماء إلى الوطن
ردّ الأمور إلى أصولها
آمن بالاختلاف ورفض الخلاف
الحملات الكثيرة حاولت النيل من سماحته، بدءاً من بعض علماء الدين الذين اختاروا منهجاً مختلفاً، وفي الأزمة ظهرت الحقائق، وصولاً إلى الخصومة السياسية، وقد كان سماحته من اليوم الأول لتوليه موقع الإفتاء رجل فكر وحوار ومسايسة.
أيها السوريون تنبهوا
عندما تحدث سماحته في البرلمان الأوروبي هبت أقلام في مصر الحبيبة، ولم يكن الربيع قد أظهر أزهاره وأشواكه، ودعت مفتي الديار المصرية ومشيخة الأزهر ليكونوا عالميين كما هو أمر مفتي سورية.. ونحن بسبب خلافات عادية لا نقدّر هذا العلم وهذا الحوار وهذه السياسة.
رغم كل العوائق لم يتوقف سماحته عن المحاضرة والمشاركة، دفع من روحه ومن أسرته قربان سورية.
وافق على أن يكون نفسه قرباناً لسورية وبقائها وعظمتها.
لم يغادر رغم كل الظروف، وبقي وأسرته مع ناسه وأهله ووطنه.
ستمضي السنوات وبعد عقود سنقرأ اسم سماحته مع قائمة العلماء المتنورين، وربما كان أولهم لأنه لم يكن مؤدلجاً، ولم يسعَ إلى أذية أحد أو قتل أحد، وإن كان من اختلاف مع سماحته من أحدهم، فهذا أمر مشروع لذاك ولسماحته، فوسائل العيش مختلفة، وطرائق التعبير متعددة، وأعباء الحياة والمكانة تضع كل واحد في مكانة.
ولكن لا نأخذ في الحسبان قول من كان ينافس على مكان أو جاه.
ولا يعتد برأي خصم له مصلحة.
كل ما أطلبه هو النظر إلى ما يقوله ويفعله.
ألا يتساوق مع العقل والحكمة؟
ألم يسعَ للحفاظ على حياة الإنسان ليحظى بجائزة حقوق الإنسان؟
مصطفى عبد الرازق، محمود شلتوت، محمد عبده، أحمد بدر الدين حسون.
قائمة من العلماء الأجلاء الذين أرادوا للمؤسسة الدينية أن تكون قوية متحاورة سيحمل التاريخ أسماءهم، ولن يحفل بذاك المتصيّد..
الفكر رحلة حياة متكاملة، تحمل أهواء وأغراضاً ومنافع، لكن الوصول إلى الهدف الأسمى وهو الإنسان يجعل الرحلة سامية وتستحق أن يقتدى بها.
كذلك هي سيرة سماحة المفتي، فلنأخذ بكم الحب الذي زرعه في سورية وأرضها وإنسانها، ولنتعلم من الحوار مع الذات قبل الآخر، وعندما نجيد ذلك لنتوجه إلى الآخر الذي لا ينتظرنا بل نحن بحاجة لتقديم أنفسنا إليه.
بوركت رحلتك صديقي سماحة المفتي، وما عرفته من خصال العالم الرجل جعلني أطلق هذا النداء، فلنستفد منه، وليكن دعاؤنا أن يطيل الله أعمار الذين أحبوا الأرض وتمسكوا بها.
للإنسان حقوقه
ولك جائزة الإنسان والحرص عليه

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن