قضايا وآراء

لجوء وقائي إلى الثقافة

| عبد المنعم علي عيسى

شأن الغزاة الخشية، وشأن ذاتهم الجماعية خشية ذاكرة الشعوب تلك المؤتمنة على الأفعال، وإذا ما أمكن لهم محوها، وتلك هي غاية الغايات، فعندئذ أمكن اللعب بالسيناريوهات وإنتاج العديد منها بطبعات مطاطية يختلط فيها الحابل بالنابل، وفي ضوء المزيج الناتج تذهب ماكينات السياسة نحو إنضاج هياكل جديدة للحلم القديم.
أنتج مشهد توقيع أوسلو في أيلول 1993 صورتين مختلفتين على ضفتي الصراع، فقد كان رمزاً لانكسار عصر البندقية على الضفة العربية، ورمزاً على ضفة اليمين الديني الإسرائيلي لانكفاء عصر الصهيونية وإيذاناً بأفولها، ولم يكد يمر وقت طويل حتى أخذت تلك الرمزية المنغرسة في عمق هذا الأخير تخرج إلى السطح، لنرى باروخ غولدشتاين، وهو طبيب عسكري، يقتحم المسجد الأقصى في 25 شباط 1994 فاتحاً النار على المصلين وقت الفجر ومردياً 59 منهم في لحظات، وإذا ما كان مقتل هذا الأخير في تلك العملية قد أعفى إسرائيل السياسية من حرج الموقف، فإن إسرائيل الثقافية لم تجد حرجاً في رفع نصب تذكاري له بالقرب من نصب أستاذه الروحي مائير كاهانا، الذي سبق لغولدشتاين أن قال إنه لا يعترف إلا بقوانينه وقوانين موسى بن ميمون فيلسوف السفارديم الأكبر في القرن الثالث عشر، والسفارديم هو المصطلح الذي أطلق اصطلاحاً على يهود إسبانيا أولاً ثم على يهود أوروبا بشكل عام.
انغرس منظر إسحق رابين في أوسلو في الذات الدينية اليهودية فبات رمزاً لانكفاء عصر الصهيونية، على الرغم من أن الرجل كان صهيونياً من الطراز الرفيع، وهو الخارج من حزب العمل المؤسس أصلاً للحلم، وقد قاد أكبر مشروع لتهجير وتشريد الفلسطينيين وتلك كانت حالة ترقى فوق القتل إلى الإفناء وتمزيق الهوية، إلا أن ذلك لم يمنع من أن يخرج إيجال عامير إليه لاغتياله في تشرين ثاني 1995 كدلالة على وجوب إنهاء تلك الانكفائية، ولربما تمظهرت دلالات ذلك بأجلى صورها مؤخراً بتلاشي حزب العمل في الانتخابات الأخيرة وراء 6 مقاعد في مؤشر صارخ عليها.
سجلت تلك المرحلة صراعاً إسرائيلياً داخلياً تمظهرت محاوره بشكل أزمة هوية، لم يكن الصراع بين المسارات المتصارعة حول الهدف وإنما كان خلافاً حول طبيعة الحركة للوصول إلى هذا الأخير، وفي خضم تلك الأزمة كان صعود بنيامين نتنياهو إلى سدة السلطة في العام 1996 الأمر الذي اعتبر آنذاك مؤشراً على رجحان كفة التطرف الديني كمسار اختطته الذات الإسرائيلية، ولربما عزا البعض تلك الظاهرة إلى مناخات دولية سادت النصف الثاني من القرن الماضي كانت قد تمظهرت بنجومية سياسية لرجال الدين مثل بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني والإمام الخميني في إيران وأسامة بن لادن زعيم القاعدة العابر للحدود والمسافات، ولمفكرين يمينيين مثل فرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتغتون، في مقابل أن النصف الأول من ذلك القرن كان قد سجل نجومية لقادة ومفكرين يساريين أو ليبراليين مثل فلاديمير لينيين في روسيا وأرنستوتشي غيفارا في كوبا وهوشي منه في فيتنام وجواهر لالا نهرو في الهند، إلا أن ذلك العزو ليس صحيحاً في حالته الإسرائيلية الشاذة تحديداً، فالتعصب الديني في إسرائيل يبدو حالة احتياج داخلية محضة في مجتمع يعاني أساساً منذ تكوينه تناقضا كبيراً بين الدين والعلمانية، بل سجل حالة غريبة وصارخة من التنافر بين بنية اقتصادية وتكنولوجية متطورة تقف في مواجهة بنى أديولوجية وثقافية متخلفة جداً، والراجح أن مرد ذلك يعود إلى عمق وكثافة حجم الأساطير التي جرى تجييرها لأجل خلق حالة من التمازج لم يكن ممكنا لولاها الربط بين مكونات شديدة التناقض في الأمزجة التي تحملها وفي الثقافات التي جاءت بها من المجتمعات التي شهدت ولادتها، كانت تلك الأساطير قد رمت بحمولات وراء الذهنية الجمعية التي ضاقت فيها حدود لحظ الآخر وكيف يفكر، ومعها تلاشت قيم التسامح، حتى بات التصعيد يشكل فيها ملاذاً آمناً وحيداً يقيها في علاقتها مع المحيطين الأقرب فالأبعد.
بفوز بنيامين نتنياهو بولاية خامسة فإن هذا الأخير يكون قد تجاوز «مجد» المؤسس دافيد بن غوريون، وهو يسعى الآن إلى تجاوزه عبر تحقيق ما لم يستطع هذا الأخير تحقيقه، إذ من المعروف أن دافيد بن غوريون كان قد طالب في أعقاب إعلانه عن تأسيس الكيان أيار 1948 بضم القدس والضفة الغربية، وهاهو نتنياهو يسعى بعد أن حصل على اعتراف أميركي بسيادة كيانه على القدس إلى القفز نحو الضفة الغربية التي سبق وأعلن أنه غير مستعد لإخلاء أي مستوطنة قائمة فيها، وأن تلك المستوطنات ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لكن على الرغم من ذلك فإن من المؤكد أن نتنياهو قد وضع الكيان أمام تناقض هو الأخطر من بين التناقضات التي يعيشها بإقراره قانون يهودية الدولة العام الماضي، ولسوف يشكل ذلك التناقص مفترقاً خطيراً من الصعب حله، فهو سيفرض حالة من ازدواجية المعايير القيمية والأخلاقية التي ستترك بصماتها في تعاطي الدولة مع رعاياها من اليهود مقارنة بنظرائهم من غير اليهود.
إسرائيل قالت لنتنياهو نعم، وبذا فقد قالت نعم للاحتلال، ومن المؤكد أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تزمتاً دينياً أعلى بما لا يقاس مما سبق، والسياسات التي ستفرزها ستشهد تشدداً أكبر مع الفلسطينيين، وستتهاوى فرص السلام والتسويات الكبرى، وسيكون المطلوب الأكبر هو إطالة أمد الصراع إلى ما لا نهاية طالما أن العرب مغرقون في مرحلة «الفوات» التاريخي التي تسجل عجزهم عن اللحاق بعصرهم.
وسط هذه الأعاصير لم يكن أمام الفلسطينيين وقياداتهم سوى السباحة عكس التيار، فبعدما تلاشت خيارات البندقية وتكبلت سبل السياسة لم يعد هناك من خيارات متاحة سوى اللجوء إلى خيارات وقائية تمثل خطوط دفاع أخيرة عن الذات، وهاهم يعلنون القدس عاصمة للثقافة العربية التي سيقول رئيس السلطة محمود عباس في احتفاليتها 14 نيسان الجاري: «إن ليل القدس لن يطول ولا يجوز أن يطول بل لا يجوز أن يبقى».
وعلى الرغم من أهمية هذا الكلام الذي يلامس شغاف قلوبنا جميعاً، إلا أنه تعبير أكيد عن غياب أي ديناميكيات قادرة على إرسائه واقعاً، وهو يسجل عجزاً في الميادين الفاعلة كافة، لذلك كان اللجوء إلى خيار الثقافة وقائياً ككبرى الخيارات المتاحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن