من دفتر الوطن

شكوك

| زياد حيدر

كان واحداً من تلك المنامات، التي تفتح عينيك بعدها على عتمة الغرفة، تلتفت فترى انعكاس ضوء الشارع على الجدار، وأنفاس النائمين تتسلل لأذنيك، بينما يتوسع الفراغ المظلم الذي حولك، ليستوعب هدير المدينة الليلي.
واحد من تلك المنامات، التي تبذل ما في وسعها لتثير أسئلة إضافية لديك. لتسابق مخيلتك، عن المستقبل، وتقدم لك الماضي الذي تعتقد أنك عشته بطريقتها، فتبرز لك تفصيلاً غائباً، أو تضيف بعدا لم تلحظه، وربما لم يكن موجودا أبداً.
كل ذلك لتسألك، بعد أن تفتح عينيك، إن كنت أنت من تظنه حقيقة، أم إنك بكل انفعالاتك وتفكيرك وتاريخك الشخصي والمهني لست سوى هيكل حاجب لذلك القابع في داخلك، الطير الذي ربما يخشى الطيران، المجرم الذي ربما يخشى تنفيذ الجريمة الأولى، الساحر الذي ربما لا يتجرأ على ممارسة حيلة من حيله.
نمشي، نأكل ونشرب، نتنزه، ونعمل، نبكي ونضحك، نتحابب وندخن سيجارة ما بعد النشوة، ونعتقد أننا حقيقة من نحن عليه. ننظر للحياة كسطح ماء راكد، ونرى صورنا فيها، فنتساءل عن امتداد شيب الشعر، وانكماش جلد فوق الحاجب، من دون رغبة أن نرى إن كان سطح الماء يعكس الذي بداخلنا، تماما كما يخفي ما تحته من عمق.
لكن اللحظة تأتي، لتكسر حلقة الاطمئنان التي فينا، وتضيقها حول رقابنا.
تأتي اللحظة، التي تقول لنا إننا لسنا سوى أخيلة ربما لأناس آخرين، لا نرى منهم سوى مشاهد صغيرة من طفولة بعيدة، لحظات التماع لموهبة ما، لحظات انكسار بضعف ما، لحظات هروب، ولحظات اندفاع، اكتشاف وانكشاف، لتتقوقع تلك الشخصيات وتتفحم متحولة مع الوقت لرماد متناثر.
تأتي الشدة كما يقال في اللغة الدينية لتختبر من نحن عليه، وإن كنا ما ندعي أو لا، وتأتي الحرب لتسألنا عن إنسانيتنا، ولتواجهنا بها، وبكل القيم التي اعتقدنا أنها تسيّر حياتنا وتنظمها.
تأتي هذه الصدمات، وبعضها طويل الأمد، لتغيرنا، أو لتعيدنا إلى ما نحن عليه فعلياً، لتزيل القشور، وتكشف المعدن المتآكل تحتها، حتى يستعيد لمعانه مجدداً.
الحرب فينا فعلت فعلتها. وكثر من الذين قاوموا، قاوموا العودة لتلك الأنا التي فعل الزمن بها فعلته وانتهى، وكثر لم يجدوا بديلاً سوى إطلاقها حرة تغرق ما خلفها وتحرق ما هو أمامها، متحررة من قيد السنين الطويلة.
انقلب الإخوة على بعضهم، والأبناء على آبائهم، والناس على أوطانهم، وعلى دينهم، أو العكس. خرجت الشياطين، وتحرر المجرمون، وتجرأ السحرة، وولدت ملائكة أيضاً من رحم بشر عاديين، لم يصدقوا يوماً ما فيهم من معجزات تلك المخلوقات الأسطورية، وذلك فقط بما اكتنزوه من رحمة قديمة، وجزء ولو يسيراً من الحب.
والآن، بعد أن طوت الحرب بعض أسوأ فصولها، ما الذي تفعله البشر؟
هل يعود الساحر خلف ستارته، متخفياً وخجلاً؟ هل ينزوي المجرم بعد أن جرب طعم أول جريمة، وثاني جريمة، وباتت كل جريمة بنكهة مختلفة؟ هل يعود الطائر لقفصه، متقاعدا عن الطيران مع ذكريات التحليق الواسع؟ وماذا تفعل الملائكة التي صعدت من صدور الناس، فمارست رحمتها في قلب القسوة البشرية؟
كان واحداً من تلك المنامات، التي تأتي هكذا فجأة، لتسألك إن كان ما تعتقد أنه عالمك الحقيقي، هذا، ومن تعتقده أنه أنت، لا يستحق كتلة كبيرة من الشكوك؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن