قضايا وآراء

بين التصعيد الروسي والتحذير الأميركي: «إذا ما كبرت مارح تصغر»..

فراس عزيز ديب- فرنسا :

في العام 2012، عندما كان الكثيرون لا يزالون مأخوذين بعبارات (لهم مطالبٌ محقة)، تحدثنا في مقالٍ بعنوان (الأزمة السورية وخليج الخنازير) عن طبيعة النهايات التي تنتظر العبث القادم لسورية والمنطقة بذريعة الحجج الواهية. يومها قلنا إن الأميركيين لم يفهموا بعد ماذا تعني سورية للروس، وإن الصدام بين الطرفين حول ما يجري في سورية سيكون مشابهاً لما جرى في أزمة «خليج الخنازير»، وأن المآسي التي تنتظر الشعب السوري ستكون مشابهةً لما عاناه الكوبيون وكلمة السر في كلتا المعاناتين… خليج.
منذ أيام يتم تداول نبأ وفاة العميل «أنطوان لحد»، لكن مات أم لم يمت، من قال إن نهج الخيانة والعمالة يموت، هو تماماً كـ«نهج الملوك» الذي تحدثنا عنه يوماً؛ لايمكن له أن يصطلح ولا يمكن له أن يموت.
لم يكن المجرم «أنطوان لحد» هو العميل الأول، فلقد سبقه «الملك حسين» بعقود، ولن يكون الأخير، بل على العكس فإن عدونا طوّر الفكرة اللحدية لتشمل رؤساء وأمراء، وفصائل وتنظيمات إرهابيةٍ تحارب باسم الدين وتعتنق الصهيونية مذهباً. كنا بأنطوان لحد فبتنا بلحديين من كل بقاع الأمة ينهشون جسدها ويُدخلون «زناة الليل» إليها، وبعد ذلك يحمل جزءٌ لا يُستهان منه جواز سفره مهاجراً، دون أن ننسى فكرة أن ليس كلّ من هاجر هو خائنٌ أو شريكٌ بالدم، فلماذا قرر الأوروبيون من جديد «القلق» على وضع المهاجرين السوريين؟
منذ أيام عبّر أحد الفرنسيين عما يجري في موضوع الهجرة بشيءٍ من الاستهزاء قائلاً:
إذا كنا يوماً كابرنا ورفضنا التعامل مع «نظام الأسد» للحصول على بعض المعلومات عن الأوروبيين الموجودين داخل سورية بذريعة «الجهاد»، فإننا في القريب العاجل قد نضطر للتواصل معه لإعطائنا معلوماتٍ عن عدد المهاجرين المتطرفين الذين وصلوا بلادنا، ونأمل أن لا يرفع ثمن حصولنا على أجوبةٍ لتساؤلاتنا.
هذه المخاوف المتصاعدة من أعداد المهاجرين وإمكانية «اندساس» الإرهابيين بينهم لم يعد حديثاً في الخفاء، بل بات الأمر يشكل قلقاً شعبياً متصاعداً، تحديداً أن هناك من بات يصف «أنجيلا ميركل» بالساذجة لأنها مأخوذةٌ بما تسميه «القيم الأوروبية»، دون أن تتذكر أن تلك القيم الأوروبية ذاتها تفرض حصاراً اقتصادياً خانقاً على الشعب السوري، وتمنع الحكومة السورية حتى من استيراد الغذاء والأدوية.
كذلك الأمر، لم يعد هذا القلق على المستوى الشعبي، بل الرسمي أيضاً، فكان واضحاً كلام «تشارتر فريدريش»؛ وهو من المحافظين البارزين في بافاريا، عندما حذر من وصول المتطرفين إلى ألمانيا مع اللاجئين وخاصةً في ظل غياب أي إجراء موثوقٍ للتأكد من هويات وشخصيات اللاجئين. أكثر من ذلك، هناك من يريد تعويم فكرة «أزمة اللاجئين السوريين»، علماً أن هناك عدداً لا يُستهان به من الواصلين وهم من جنسياتٍ غير سورية، يدخلون أوروبا عبر مافيات تزوير الجوازات، وما يُحكى عن فضيحة تورط عدد من أعضاء ائتلاف اسطنبول بإصدارها مقابل مبالغ مالية معينة.
لكن الأهم من ذلك هو ما يُحكى في الأوساط السياسية والأمنية الفرنسية تحديداً عن «لعبة أردوغان القذرة»، يقولون إن أردوغان الذي لا يخفي أبداً خلفيته الدينية التي ينطلق منها لتبرير طموحاته هو واستخباراته، على علمٍٍ كاملٍ بكل ما يجري لجهة تمرير الإرهابيين إلى أوروبا، أو على الأقل التساهل مع المتطرفين الأكثر خطورة ليحقق بذلك أمرين:
الأول ابتزاز الأوروبيين وجعلهم وكأنهم بحاجةٍ له، والثاني إظهار القدرة على التحكم بكل ما يجري في الشمال السوري، يريد أن يثبت للجميع أنه- كما بندر- قادرٌ أن يوظف الإرهابيين كورقةٍ أينما يشاء، لكن هل سينجح بذلك؟!
صدقت «الفايننشال تايمز» عندما أكدت منذ أيام أن أردوغان وحزب العمال الكردستاني وصلا إلى حافة الهاوية، بل أكثر من ذلك عندما اندلعت مواجهات «تقسيم» والتي أدت لمقتل عشرات المتظاهرين بيد شرطة أردوغان، كان أردوغان يصف المتظاهرين بأقذع العبارات، علماً أنه كان ينتقد كل الرؤساء الذين طالهم الربيع العربي لوصفهم ما يجري بالإرهاب. قبل أمس كرر «ابنه الروحي» أوغلو ذات العبارة التي اشتهر بها معظم رؤساء الدول التي ضربها الربيع العربي بالقول: (تركيا ليست سورية). قالها قبلك كثر يا «مستر أوغلو»، لكن في النهاية عندما يتم اتخاذ القرار بالدفع بالأمور نحو الهاوية أكثر فلا يبدو أنك ستكون قادراً على المنع. ليس ذلك فحسب، هناك أوساط تركيةٌ «مخضرمة» بدأت تتحدث عن أجواء مشحونةٍ في الداخل التركي تذكِّر بانقلاب 1980، وإن كنا ندرك أن زمن «الانقلابات الإرادية» قد ولَّى، لكن هذا لا يعني أبداً أن الأمور في تركيا بأفضل حال، تحديداً أن الجميع فيها بات يتعاطى وكأن هناك بازاراً انتخابياً عليه الكسب منه قبل فوات الأوان، فأراد أردوغان السعي بالهروب نحو الأمام عبر المزيد من التفجير في سورية، تحديداً أنه أكمل مساعيه لانفتاح «آل سعود» على عصابة الإخوان المسلمين، لأنه يعرف تماماً أن استمرار التقارب (المصري- السوري) هو في النهاية ضربٌ لكل الطموحات، فأيهما سيسبق أولاً؟!
تصاعد الخلاف الروسي الأميركي لدرجاتٍ غير مسبوقة، ليصل إلى حد تحذير مسؤولٍ أميركي من أن وجود القوات الروسية في سورية سيؤدي لمواجهة بينها وبين قوات التحالف. يرى الأميركيون أن الروس عليهم الدخول بتحالفهم ضد الإرهاب، ويتمسك الروس بالشرعية الدولية وبديهية أن الحرب على الإرهاب يجب أن تكون بمشاركة السوريين. بكل تأكيد لا يبدو تصاعد الخلاف عرَضياً، بل هو أحد جذور المشكلة، تحديداً أن هذا التصاعد في الخطاب له احتمالان:
الأول، وهو نظرية يتقنها أصحاب تحليلات «النوم في العسل»، بأن هذا التصعيد هو تصعيدٌ خطابي لا أكثر وما يجري من تجهيزات للحلول في المرحلة القادمة يبدو أنها ستكون كفيلة بحل الشوائب، تحديداً أن هناك من ربط هذا التفاؤل بتبديلٍ في لهجة العديد من المسؤولين الأوروبيين حول «ضرورة التعامل مع الأسد» وأن «الجيش السوري قادرٌ على ضرب الإرهاب»، لكن ليس بالتمني وحده يحيا الإنسان، وهذا يقودنا نحو الاحتمال الثاني:
هنا علينا العودة لمقال (الأزمة السوريّة وخليج الخنازير) لنقول:
بعد خمس سنوات من الحرب على سورية، لم ندرك بعد أن أميركا لن تتراجع ما لم تر بوادر انهزام، هي تراجعت في عهد كيندي عندما أدركت أن الصواريخ الروسية قريبة منها، حتى إن هناك من تحدث يومها عن فرضية أن سحب الصواريخ لنزع فتيل الأزمة كان صورياً أمام الكاميرات فقط، لذلك لا يبدو حتى الآن أن الولايات المتحدة بصدد التراجع، مالم تشعر بميزان قوة جديّ يواجهها في حرب النفوذ، بل على العكس هي الآن تمسك بخيوط داعش، وتمسك بخيوط «جيش الفتح» القاعديّ النسب عبر شريكيها مشيخة قطر وتركيا، وتمسك بـ«جيش الإسلام» عبر «آل سعود»، والدليل ارتفاع وتصاعد هجمات هذه الفصائل بوقتٍ واحدٍ وفي مناطق متفرقة، فهل باتت العاصمة هي الهدف المقبل؟
بكل تأكيدٍ يبدو أن معركة الفصل لكل ما يجري ستنقسم إلى قسمين، الأول هو ما يسمونه معركة «تحرير» حلب، والثاني معركة «تحرير» العاصمة، كلا الهجوميين سيكون لهما أبعادٌ أساسيةٌ وثانويةٌ، ففشل «التحرير» يجب أن يُستعاض عنه بأمرٍ أساسي، وهو تدمير المخيمات الفلسطينية، بمعنى آخر:
ماذا لو حاولت الولايات المتحدة و«إسرائيل» اللتان ستقودان معاً المفاوضات القادمة حكماً باسم «المعارضين السوريين» الحديث عن أن أحد شروط الحل والتسوية هو توطين الفلسطينيين في سورية، تحديداً مع فتح باب الهجرة للسوريين بطريقةٍ كبيرة، بينما لا يزال السيد رئيس مجلس الوزراء يصرّ أن موضوع الهجرة مرتبطٌ بهجرة الكفاءات، وليت الفرصة سنحت له ليلتقي ببعض هذه الكفاءات المهاجرة! لأن الموضوع أخطر من ذلك بكثيرٍ، هو مرتبطٌ بسياسة ملء فراغٍ بشري وليس ملء فراغٍ «أكاديمي». هنا علينا أن ندرك أن الولايات المتحدة لكي تجنح للحل عليها ببساطةٍ أن ترى ردة فعلٍ تشابه قصة الصواريخ، فهل بدأ الروس فعلياً مع الإيرانيين باعتماد هذه المنهجية انطلاقاً من فرضية «إذا ما كبرت ما بتصغر»، إن كان بالحديث عن السلاح النوعي أو ما تم تناقله عن «مناوراتٍ في المتوسط»؟!
هنا علينا أن نقتنع أن ارتفاع حدة المواجهة أمرٌ لا يحدده الروس وحدهم، لكن يحدده مدى صمود الجيش العربي السوري في الدفاع عن حلب وأطراف العاصمة ومنع أي خرقٍ، لأن هذه الأمور باتت في النهاية من المحرمات. وإن نجحوا بذلك فإن بوادر الحل في المنطقة لن تكون فقط بإعلان «آل سعود» انتهاء الحرب في اليمن، لكن بالتأكيد هي مرتبطةٌ بما ستنتهي إليه الانتخابات التركية، وما سيؤول إليه التقارب (المصري- السوري )، عندها فقط سنتحدث عن ربع ساعةٍ أخيرة، وماعدا ذلك فجميع ساحات الصراع مفتوحةٌ… بل ومرشحةٌ للتوسع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن