ثقافة وفن

الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية … د. غطفان حبيب: تؤكد النقوش وجود حس جمالي… وذائقة بصرية فطرية لإنسان المرحلة

| سوسن صيداوي

كيف عاشوا، ماذا كانوا يأكلون، أو بماذا يكتسون، كيف عمّروا حضارات، وحاربوا الغزاة، وماذا عن الفتوحات؟ حيوات عاشها الملايين من البشر، أخبرونا عن أيامهم بعاداتها وتقاليدها، وحكوا لنا قصصهم ومغامراتهم عبر نقوش ورسومات جدارية، وثّقت مشاهد لكل حضارة على مرّ الزمن، شواهد على وجودها، وشواهد على تطورها ورقيها، تثير فينا «هذه الشواهد لذّة البحث للكشف عن أسرار هذه الحضارات وخفاياها، وقد تركت لنا الحضارات القديمة أوابد دّلت على وجودها، وأدوات دّلت على تطورها وعلى درجة تقدمها» كما أشار د. غطفان حبيب في مقدمة كتابه الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وضمن سلسلة «مسارات فنية» بعنوان: «الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية-11000 ق. م-3000 ق. م»، وواقع 224 صفحة، مقدما في خمسة فصول بحثاً واسعاً عن الفن القديم في سورية، مروراً بالعديد من الحضارات، متوقفاً في باقي الفصول في البحث حول الرسوم الجدارية المكتشفة ومواقعها، مقدماً دراسة تحليلية فيها مع تقنياتها، متابعا في أهميتها ودورها في الصياغة التاريخية والتطور الفني والفكري والاجتماعي.

الغاية من البحث
يؤكد الباحث في مقدمة دراسته أن أهمية الرسوم الجدارية القديمة، تأتي من كونها لم تُصنع لحاجة فيزيولوجية، وإنما صنعت لحاجة عقلية وفكرية، وبالتالي هذا الأمر هو ما يعطيها تميّزاً خاصاً يدفعنا للتفكير جدياً بدراستها لكي نعود من خلالها آلاف السنين عبر الزمن، مضيفاً د. حبيب إن الرموز والنقوش والرسوم الفنية القديمة المكتشفة في سورية التي تعود إلى فترات ما قبل التاريخ، لم تأخذ حقها في الظهور، على الرغم من أنها تشكل مادة علمية مهمة للباحثين والمهتمين، وتقدم فكرة جيدة عن الحياة في تلك الفترات التي سبقت التاريخ، كما أنها تشكل سجلات موثقة تصور كثيراً من نواحي الحياة القديمة وطريقة تفكير إنسان ما قبل التاريخ في منطقتنا، وتؤكد وجود الحس الجمالي العالي والذائقة البصرية الفطرية لديه منذ آلاف السنين لهذا السبب اخترت أن يكون هذا الكتاب حول تلك الرسوم الجدارية القديمة المكتشفة في مناطق عديدة من سورية، وحول تقنيّتها وموضوعاتها ورموزها وأهميتها والدوافع التي أدت إلى رسمها، وحول كل ما يتعلق بها من الناحية الفنية والتقنية والعلمية، وفي الحقيقة أن بعض هذه الرسوم الجدارية في سورية تحتوي على عدد من الألوان بمعنى أنها تصوير جداري وليست رسوما فقط، ولكنني أطلقت عليها اسم الرسوم الجدارية من منطلق التسمية الشائعة لجميع رسوم ما قبل التاريخ في جميع أنحاء العالم «فجميع رسوم المغائر في أوروبا والتي تعود لفترة ما قبل التاريخ تحمل مساحات لونية أقرب إلى التصوير ولكنها تسمى بمجملها رسوما جدارية وليست تصويراً جدارياً»، ويمكن أن نطلق عليها رسوما لأنها بدأت بمجملها برسوم خطية بدائية، (حتى الرسوم الملونة منها)، ولأنها لا تحمل صفات التصوير بكاملها».

ما يقدّمه البحث
جاء هذا الكتاب لجمع وتوثيق وشرح وتصنيف الرسوم والرموز الفنية القديمة، التي وجدت في مناطق عديدة من سورية مثل «الجرف الأحمر والمريبط وجعدة المغارة وحالولة…»، والتي تنتمي لفترات ما قبل التاريخ، لكي نستطيع دراستها وتسليط الضوء عليها، ولتؤسس لدراسات لاحقة تستند إلى هذا التوثيق، وتستمد منه عناصرها الأولية ما يُكتشف لاحقاً، ولكي نساعد القارئ والمهتم بحضاراتنا القديمة في قراءة نتاجها الفني والتمتع بمستوى الجمال البصري فيها، هذا ما أشار إليه د. غطفان حبيب مضيفاً: «صحيح أن أقدم هذه الرسوم المكتشفة يعود إلى الألف العاشر قبل الميلاد، ولكنني رأيت أن أبدأ دراستي من الألف الحادي عشر قبل الميلاد، أي من تاريخ التأسيس لانطلاقة ثورة الرموز الفنية في منطقتنا والتي شكلت بالتأكيد بداية لتلك الرسوم الجدارية، ولأنه التاريخ التقريبي الذي شهد بداية الفترة الانتقالية للرموز الفنية من الرموز التي تحاكي الطبيعة «كما في رسوم الكهوف في أوروبا» إلى الرموز الهندسية التي تجرد العناصر الطبيعية إلى رموز تدل عليها، والتي كانت بدايتها في منطقتنا في موقع المريبط، ثم انتقلت منه إلى جعدة المغارة التي حملت رموزا هندسية ولكن على نحو أكثر تطورا، ثم إلى موقع حالولة الذي كان ابتدأ التمثيل الفني فيه هندسيا ثم ما لبث أن تحول إلى رموز تحمل تجريدا فنيا جميلا للشكل البشري، وفي النهاية إلى موقع بقرص الذي احتوت تمثيلاته الفنية التشكيلية على الشكل الحيواني».

تسلسل البحث
بدأ الباحث دراسته بعرض واف لسورية في فترة ما قبل التاريخ وكيف تشكلت الحضارات السورية القديمة وتعاقبت على هذه الأرض، والفترات التاريخية لهذه الحضارات، وستشمل هذه الدراسة تعريفا بأهم الفنون التي سادت في تلك الحقبة من الزمن، وأنواع هذه الفنون وكيف تطورت وارتقت وصولا إلى اختراع الكتابة وبداية التاريخ.
ثم ستتحول الدراسة إلى دراسة تخصصية تهتم فقط بالمواقع السورية القديمة التي عثر فيها على رسوم جدارية، حيث قام الباحث د. غطفان حبيب بوضع مخطط تفصيلي لكل موقع من تلك المواقع، وخرائط لهذه المواقع وصور لها ومعلومات عن كل موقع من حيث عمره ومكانه ومساحته واللوحات الجدارية التي اكتشفت فيه، بعد ذلك يقدم البحث دراسة تفصيلية لكل لوحة جدارية من الأقدم إلى الأحدث زمنيا، وهي-بحسب الباحث-الخطوة الأهم في البحث، حيث ستشمل هذه الدراسة في هذا الجانب مقاسات اللوحة وعمرها وعناصرها وألوانها وتقنية تنفيذها والرموز المؤلفة لها ووصفا عاماً للوحة ومحاولة لمعرفة سبب رسمها وكل ما يتعلق بها. كما يشمل الكتاب شرحا حول التقنية القديمة في الرسوم الجدارية بشكل عام، ثم حول التقنية التي اتبعت في رسم اللوحات الجدارية القديمة المستخرجة في سورية كل على حدة. وأيضاً تم التطرق إلى دور تلك الرسوم الجدارية القديمة في الصياغة التاريخية، ودورها في التطور الفني عبر مراحله وكيف توارثتها الأجيال وصولا إلى زمننا هذا، مع تبيان دور تلك الرسوم في التطور الفكري والحياة الاجتماعية للحضارات التي صنعتها، والتركيز على أهميتها وكيف أنها شكلت الوسيلة المهمة في نقل الفكر الحضاري وطرائق العيش وطقوس العبادة من جيل لأخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن