ثقافة وفن

ولادات خارقة

| د. نبيل طعمة

أطلق عليها الحياة الافتراضية، دعونا نخضْ غمارها، ونبحث عن الكيفية التي سيطرت على عقولنا، واخترقت أبعادنا، خدعتنا على غفلة منا، لحظة أن شهدنا أنها براقة ساحرة مبهرة، غدت متسارعة لدرجة الإذهال، لأن التفكير بعقل المستقبل يظهر وضوحاً مسوغاً، أو في كثير من الأحيان مقنعاً لأغلب الحالات المعيشة، ومنه أخذنا نرى أن تقاطر الدراسات وتقدم البحوث التي أخذت نتائجها تظهر حال الأجيال القادمة، وبشكل خاص الطفولة، والمراهقة قوة تعلقها بالحياة الافتراضية، فمكوثها مع الإنترنت تغلغل في مفاصلها العقلية والجسدية، وأخذ يحل محل الحياة الطبيعية، وتحولت أغلبية مريديها إلى القرار الفردي، وجسّد بذلك عملية الانطواء والتقوقع والانحصار في المكان، وأفقدها الحضور الجماعي.
كل هذا نتاج الاندماج التام ضمن وسائط تكنولوجيا الاتصالات التي سيطرت بشكل تام على فكر المجتمعات أفراداً وأسراً ودولاً، وتحول تأثيرها إلى إشكالية ثابتة، أخذ فائض الوعي يتابع نتائجها، بحكم ما تحمله من تحريض على المتابعة ووجود الإغراء النوعي والإغواء المبهر من الجنس إلى المعرفي إلى الديني إلى العلمي، ومن خلالها وجدنا اتحاد السبب بالمسبّب، والمشكلة بالنتيجة، ولم يعد بالإمكان فصل أحدهما عن الآخر، وأصبحت هذه الوسائط تتحدث بأنها مدرسة حديثة جداً، انتسب إليها الجميع، ونفت مع حضورها جميع التأثيرات المحيطة؛ تلفزة، إذاعة، مسرح، سينما، أدب، شعر، فهذه قد أصبحت وأمست أقل من حدث، مهما بلغ شأن كل مفردة منها، واستلبت من الجميع كل شيء، وقدمت حضورها لكونها الأحداث وخزان المعلومات الشخصية والعامة، إنها تعمل كما الشيطان، وتفكر كالبشر الزائلين، حيث كشفت للعالم أجمع حجم خيانة البشرية لبعضها وسطوها على بعضها الآخر.
حياة افتراضية تمنح الأحلام، توزعها بين أفكار الأجيال، توحدها في عقولهم، تضعف أبصارهم، وتبطئ من حركتهم، تخلق فيهم نزعات القفز إلى الأعلى مباشرة، بدلاً من أن تأخذ بهم إلى أنّ الصعود يكون درجةً درجة، بعد بناء قاعدة صلبة قادرة على حمل سلالمهم، حتى الكبار الذين بنوا حياتهم وأسرهم وأنجزوا فيها بين البسيط والمتوسط والجيد والمبدع، نجدهم اليوم وقد تعلقوا بهذه الوسائط، ولم يعد هناك من شخص إلا ويقتني وسيطاً من وسائطها، حتى الأطفال الرضع تدخل ذاكرتهم من خلال الأهل الذين يبحثون عن المشاهد التي توقف بكاءهم، أو تثير ضحكاتهم، وأكثر من ذلك تفرقت الأسرة في المنزل الواحد، فكل واحد منهم تجده يستند إلى ركن، يبحث في جواله، أو يتابع عبر حاسوبه، ضاعت الألفة، وسادت الفرقة، ولم يعد أحد يستطيع التنازل عن محموله، وإذا فقده لبرهة، تجده كالهائم على وجهه.
حاولوا أن تخفوا «موبايل» ابن أو زوج أو صديق زائر أو رفيق عمل، وراقبوا ما الذي يجري؟ انفلات يصل إلى حدود اللا أخلاق، واختلاف لا يمكن تخيله، وإذا اطلع أحدهم على جهاز الآخر من دون إرادة من صاحبه، تخيلوا أن الأمور قد تصل إلى حدّ الطلاق بين الأزواج، وإلى الفراق بين الأصدقاء، وتهكمات من الأبناء أو الإخوة.
هل من حل لهذه الحياة الافتراضية؟ أجزم أنها غدت أكثر من قضية، بعد أن تحولت إلى ذاكرة خفية وصندوق أسود، خرج من داخل الإنسان، ليسكن هذه الوسائط، فهل انتبهنا ونبهنا هذه الأجيال من سلبياتها وحسناتها؟ وكيف بها تقدم التحامل السخيف على المعرفة الأصيلة؟ وكذلك تشوه حقائق التاريخ المشتقة من الشواهد والوقائع بحكم كثافة معلوماتها التي تعقد وتسهل الوصول إلى الحقائق، والأجيال لا تدرك ذلك، والمسؤولية تقع هنا على القادرين والمتفهمين لعقلية العولمة وأهدافها الظاهرة والعميقة، حيث إن إرادتها اختراق الحدود السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وتغذية المجتمعات بلغات جديدة، تختلف عن حضورها وقيمها وأصالتها وأعرافها، بأنها سوق واحدة تغزو العقول، وتحشر جميع الناس فيها، فيلهون ببعضهم، يستهلكون كل شيء، وتعيد إنتاجهم عبر وسائطها أجيال متتابعة وصلت الخمسة، وهي إلى الأمام والقادم مذهل.
هكذا هي العولمة، تصوير بأن كوكبنا قرية واحدة، ونعترف أنها قربت البعيد، واختصرت المسافات، وسرّعت الزمن، وأذهلت الواقع بوسائطها، حيث حولتها إلى نوافذ، يرى الناس بعضهم من خلالها من أقصى الأرض إلى أقصاها، ومن شمالها إلى جنوبها، شاشاتها صغيرة، ولغتها بسيطة، هدفت إلى أن يعمّها الأمن والسلام، وستحل من خلالها كل المشكلات، وهنا أعترف وأقول عن درجة أهميتها في التعليم الأساسي والثانوي والجامعي والبحث العلمي والإنتاج والإبداع، طبعاً أتحدث عن الوسائط، وما توفره من زمن وجهد ودقة في النتائج، وقدرتها إن كانت في المسار الصحيح والاستخدام الواعي على توسيع المدارك والمعارف وتحصين الوجود البشري.
الحياة الافتراضية تجهد لتوحيد التطلعات الفكرية، عملها الدؤوب طمس الدوافع الإنسانية التي تتصل مباشرة بما تريده التنوعات الفكرية؛ أي مسح العلاقة بين الماضي والحاضر وإنشاء أحلام مستقبلية لا يقدر عليها إلا الندرة، بينما الباقي الكثيف يبقى تائهاً فيها ومستعبداً لوسائطها فقط، وهذا ما نشهده الآن من إضاعة هائلة للوقت بدلاً من الاستثمار فيه.
دققوا فيما أتحدث به تجدوا الكم الهائل من الرغبات المطورة للغة الفرد، الأنا التي تأخذه إلى حالات من الانعزال عن مجتمعه، على الرغم من أن الصورة توجده داخلها، وهذا ما تحلم به وسائط التواصل الاجتماعي، وتهدف إليه من تعزيز التجارب الجنسية، وفتح الإباحية والرغبة في السيطرة على كل شيء، وتحقيق النفوذ وتطوير الطغيان الأسروي والاجتماعي، وأهم ما تريد تعزيزه حالة الخوف التي تؤدي إلى البؤس الفردي، ومن ثم العزلة أو المقاطعة الاجتماعية.
الحياة الافتراضية تسلخ الناس من حقيقة وجودهم الواقعي، تفصلهم عن إنسانيتهم، تمنعهم من التواصل عبر الحواس الخمس المادية، تنتزع تفكيرهم الأخلاقي ببعضهم، أوصلتهم إلى أن يكونوا أدوات لأدوات افتراضية، نجحت في تعزيز الفرقة والتنافر، ومن ثمّ سهلت سبل الاختراق، وهذا ما أصاب منظومة عالم الجنوب برمته، وآثارها ظهرت لدى أقطار الأمة العربية، التي سادها عبر عشر سنوات الكثير من الخلل والتدمير، واضطهاد شعوبها لبعضها.
هل فكّرتم بما فعلته وأنجزته هذه الوسائط؟ فحياتها كشفت أسرار الأديان، ونشرت فضائح العلاقات السياسية ونظمها، وأشارت إلى الوحوش الاقتصادية، وقدمت العلاقات الجنسية بأبشع صورها، حقيقة تعمل على قتل الحياة الإنسانية والإنتاجية والإبداعية بين البسطاء والفقراء ومتوسطي الحال، وعلى تعزيز وجود الثراء والسيطرة والغزو والاغتصاب، لأن وقوع هذه الوسائط بين أيادي من ذكرت ولّد لديهم حياة بوهيمية لا مثيل لها، يملؤها الوهم، تتملكهم وتدفع بهم لتصوّرَ أياماً قادمة وافرة بالرزق والرفاهية، على الرغم من أنها واقع بين أيدينا، إلا أنها تشابه البدعة المنظمة، المنشود منها إعادة الشعوب إلى الرومانس القديم، الذي تقوم بتحديثه وتقديمها للعواطف المريضة والأحلام الزائفة، ولتتقدم إلى الذين عانوا الصعوبات الحياتية في سبيل اكتساب الشهرة والثروة والاستقرار.
عوالم هذه الحياة الافتراضية كثيرة الأهداف متباعدة المرامي، هل انتبهنا إلى ما تخفيه بعد أن توازعتها مليارات البشر، وكشفت من خلالها ما في السماء، واستكشفت أعماق البحار؟ لقد نبشت القبور والصدور وما تحت الصخور، وشكلت للإنسان حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، فغدت كالماء والهواء والطعام والشراب، وأكثر من ذلك فاقتهم.
هل يستطيع اليوم كائن من كان أن يحيا من دونها؟ والقادم مذهل أكثر للعقل، فهي حقيقة الحياة، لكنها بلا حياة، أي بلا روح، ولا إحساس، تعمل على استلاب الروح والإحساس من النفس البشرية، هنا أعترف أنها حياة جديدة غزتنا، فهل ننتبه إلى حسن التعامل معها؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن