ثقافة وفن

قلعة سمعان العمودي مثال واضح للعمق والثراء الفكري والروحي الذي يميز سورية … القديس سمعان العمودي هو أعجوبة العالم الفريدة.. أقام على عمود 42 عاماً يعبد الله

| المهندس علي المبيض

في عام 2009 اعتبرت سورية من بين أفضل عشرة مقاصد سياحية في العالم وذلك لما شكلته من إضافة مهمة جداً إلى الحضارة الإنسانية العالمية تجلت في العديد من المكتشفات والاختراعات التي قدمتها خلال مراحل تاريخها الحافل والتي أسهمت بشكل كبير في تقدم العلوم والفنون وتطور البشرية لما تحتويه سورية من آثار غنية ومتنوعة، حيث قامت فوق معظم المدن السورية حضارات عظيمة خلفت وراءها آثاراً مذهلةً امتدت على كامل الجغرافيا السورية من أقصاها إلى أقصاها.

وضمن سياق مقالاتنا الأسبوعية التي نسعى من خلالها إلى التعريف بالتاريخ السوري العريق وتسليط الضوء على بعض مفاصله فقد عرضنا سابقاً لمحةً موجزةً عن بعض القلاع في مدينة دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس وحماة، ثم انتقلنا للحديث عن المعالم التاريخية في الشمال السوري التي تحمل اسم المدن المنسية أو المدن الميتة أو المدن المهجورة أو المدن العتيقة أو القرى الأثرية وكلها تسميات لموقع واحد وهو عبارة عن مجموعة مدن وقرى تقع شمال غرب سورية ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب وتمثل هذه المدن محطةً مهمة جداً من تاريخ سورية يعكس طرازها المعماري وحياتها الروحية والفكرية والثقافية في القرون الميلادية الأولى، وهي فريدة ليس في سورية فحسب بل على مستوى العالم كله ولا تزال قائمة تروي للأجيال الجديدة قصص الأجداد الذين كتبوا تاريخاً مجيداً يترجم بطولات السوريين ويؤكد الاستمرار والتواصل الحضاري السوري عبر كل المراحل التاريخية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فمن أبرز ما يلفت النظر في الهندسة المعمارية والحياة الدينية في المدن المنسية المكانة المهمة التي تحتلها الزخارف فيها فإضافة إلى أهميتها على صعيد تطور أشكالها وعلى صعيد الرموز التي تحملها فإن لتلك الزخارف دورها فيما توفره من معطيات تاريخية ومن معلومات حول صانعيها.
وفي مقالتنا اليوم سنقدم مثالاً آخر مختلفاً عن القلاع والحصون السورية التي بقيت راسخةً صامدةً حتى يومنا الحالي وهي قلعة سمعان التي تقع في قرى جبل سمعان في الجهة الشمالية الغربية من حلب وهي أحد أهم المعالم التاريخية السورية وتشكل حالةً فريدةً قل أن نجد لها نظيراً في مناطق أخرى من العالم وتستحق أن نتحدث عنها بشيء من الإسهاب.
وقبل الحديث عن قلعة سمعان لابد أن نعطي فكرةً موجزةً عن طبيعة الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة قديماً في المدن المنسية حيث شهدت هذه المنطقة خلال فترة الإمبراطورية الرومانية أي في القرون الأولى للميلاد أزمات وفتناً داخلية، وتعرض المسيحيون في تلك الفترة إلى اضطهادات شديدة ومضايقات كبيرة في أداء عباداتهم واستمرت هذه الاضطهادات حتى عام 313 م وهو تاريخ صدور مرسوم ميلانو الذي أصدره الإمبراطور الروماني قسطنطين حيث منح بموجبه الحرية الدينية للمسيحيين، وضمن مرسوم ميلانو حرية العقيدة وأضفى الشرعية على العبادة والشعائر الدينية المسيحية ونص على حياد الإمبراطورية الرومانية وعدم تدخلها بشؤون العبادة، لينهي بذلك مرحلة اضطهاد المسيحيين التي كانت سائدة في تلك المرحلة وبعد صدور مرسوم ميلانو زهد عدد من سكان المنطقة بالحياة وترفعوا عن الاحتياجات البشرية الدنيوية واختاروا حياة التنسك والتقشف وقساوة العيش، وقد عاشت فئة من هؤلاء النساك في العراء التام ولجأ بعضهم إلى المبيت في الكهوف وكانت هناك فئة سميت نساك الأبراج حيث كان واحدهم يعمل طوال اليوم بأعمال الزراعة في الحقل ثم يعود إلى برج مربع يبيت فيه ويقوم بطقوس العبادة ونسخ المخطوطات ليلاً. كما زاد بعضهم من زهدهم بالحياة وتحمل قسوة العيش بأن ألزموا أنفسهم بالإقامة على عمود لفترات زمنية طويلة وسمّوا نسبة لذلك العموديين وقد سمي النساك العموديون أيضاً «شهداء أيام السلم» أما طريقة التنسك الجماعي فكانت حياة معظم رهبان الأديرة حيث كان النساك يأكلون معاً ويصلون معاً وعند المساء يختلي كل واحد من المجموعة بصومعته ليبيت فيها بمفرده وكان رائدهم في ذلك القديس سمعان العمودي وهو صاحب طريقة التعبد على عمود حيث يعتبر بحق أعجوبة العالم الفريدة من نوعها إذ أقام القديس سمعان على العمود مدة اثنين وأربعين عاماً يعبد اللـه سبحانه وتعالى وأصبح فيما بعد ظاهرة مقدسة.
ولد القديس سمعان أو سيمون نحو عام 386 للميلاد في بلدة سيسان أو سيس الواقعة على الحدود السورية التركية القريبة من مدينة أضنة وكان في صغره راعياً للماشية وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره اعتمد حياة الرهبنة وانضم إلى جماعة من النساك وبقي معهم مدة سنتين ثم انتقل إلى دير يقع جنوب جبل شيخ بركات وأمضى هناك عشر سنوات قضاها في الصلاة والتقشف حيث كان يتناول الطعام مرة واحدة في الأسبوع فطلب منه مغادرة الدير خوفاً على حياته وخشية أن يؤذي نفسه فلجأ في عام 412م إلى بلدة تيلانيسوس (دير سمعان الحالية) وعاش فيها ثلاث سنوات وكانت من عادته أن يصوم أربعين يوماً من دون أن يأكل أو يشرب ثم صعد إلى قمة الجبل وربط نفسه هناك بسلسلة حديدية إلى صخرة زيادةً في الزهد وانتشرت قصة القديس سمعان المتقشف بسرعة وراح الناس يقصدونه من كل حدب وصوب بقصد التبرك، وتحول المكان إلى محج فبنى لنفسه عموداً ليكمل حياته مقيماً عليه هرباً من ازدحام الناس وحباً لحياة النساك وتقرباً إلى اللـه، ومع ازدياد أعداد زواره أخذ يعلي العمود ويزيد ارتفاعه تدريجياً إلى أن وصل ارتفاعه إلى 16 متراً وكان تلامذته يصعدون إليه فوق قمة العمود ويزوره الناس للقداسة وأمضى عليه مدة اثنين وأربعين عاماً إلى أن توفي وهو على عموده سنة 459م، بعدما توفي القديس مار سمعان ذاع صيته وأصبح رمزاً دينياً مقدساً في سائر البلدان وقد اكتسبت كامل المنطقة شهرة كبيرةً واحتلت مكانةً مرموقةً ومقدسةً بفضله، فتحولت قرية دير سمعان المجاورة للكنيسة إلى مدينة للرهبان وبني فيها ثلاثة أديرة إضافة إلى عدة فنادق لاستقبال الحجاج وكبار الضيوف الوافدين إليها وقد جعل مريدوه فيما بعد العمود الذي قضى عليه القديس سمعان معظم حياته مركزاً للكنيسة التي قاموا ببنائها والتي تتكون من أربع كنائس على شكل صليب يتوسطها قاعة مثمنة الأضلاع يقوم في وسطها ترس العمود المقدس الذي كان يتعبد فوقه القديس سمعان العمودي ويلقي مواعظه. وتقع الكنيسة في مكان منعزل اختاره القديس سمعان بقصد التقرب إلى اللـه جرياً على عادة الرهبنة بحيث شكل العمود مركزاً لبنائها، ويذكر المؤرخون أن كنيسة سمعان العمودي كانت لفترة طويلة من أعظم كنائس العالم ومثالاً مهماً لعظمة التصميم المعماري وقد كشفت أعمال التنقيب التي جرت فيها عن وجود بقايا كنائس وأديرة ودور سكن وأسواق وأبراج دفاعية ومعاصر، وبعض هذه الآثار بحالة جيدة ولا ينقصها سوى الأسقف والأبواب، تعود أقدم هذه الآثار إلى القرنين الخامس والسادس الميلاديين، تبلغ مساحة الكنيسة 5000م2 وتقع على نتوء صخري يبلغ ارتفاعه 564م عن سطح البحر وتبعد الكنيسة عن مدينة عفرين نحو20 كم وعن مدينة حلب 40 كم من جهة الشمال الغربي وقد دفن فيها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز وهي تعتبر أحد أهم مقومات السياحة الدينية في سورية إذ يؤمها سنوياً عشرات الآلاف من الزوار والسياح من مختلف دول العالم والأوروبية على وجه الخصوص.
في أواسط القرن العاشر الميلادي أي في العصر البيزنطي ازدهر دير سمعان وأصبح مركزاً معروفاً للعلوم الدينية المسيحية وبني حوله سور قوي مدعم بـ27 برجاً وتحولت الكنيسة وملحقاتها من مركز ديني مرموق ومكان للعبادة إلى قلعة عسكرية محصنةً في منطقة حدودية بين البيزنطيين والمسلمين وعرف الموقع من يومها بقلعة سمعان.
وأما مدينة تيلانيسوس أو قرية دير سمعان الحالية التي لا تبعد أكثر من 500م عن القلعة فقد نالت شهرةً واسعةً بسبب طبيعتها الجميلة وموقعها المهم والإستراتيجي على طريق أفاميا فقد كانت منتجعاً تبيت فيه القوافل التجارية لينال التجار قسطاً من الراحة ويقضي فيه الناس أوقات استجمام ما استدعى إنشاء الكثير من الفنادق والمضافات لكبار الزوار فيها كما كانت ملجأً للمتهربين من دفع الضرائب وتأدية الخدمة العسكرية في تلك الفترة.
ونحن عندما نستعرض مثل تلك المواقع إنما نقصد من جملة ما نرمي إليه تبيان أهمية تلك المعالم التاريخية وضرورة إقامة المشاريع التنموية والسياحية فيها، وسنتحدث في المقالات القادمة بشيء من التفصيل عن أهمية الاستثمار في التراث الثقافي وما يشكله ذلك من فوائد عديدة في مجالات شتى.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض الطاهرة.
نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال
جيلاً بعد جيل.
سورية الراسخة.
سورية الشامخة.
ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت طوال عمرها المديد كل الأزمات التي مرت بها.
مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن