ثقافة وفن

نمتلك قدرات وإمكانيات لكن ينقصنا التخطيط السليم … الاهتمام بالوجوه الشابة واجب لكن بدراسة متأنية وعناية دون السماح للمتطفلين باقتحام ساحة الدراما

| وائل العدس

بعد ثماني سنوات من الحرب الإرهابية على سورية، نهضت درامانا وأثبتت علو كعبها، فارضة نفسها على الشاشات العربية طوال أيام الشهر الكريم من المحيط إلى الخليج في تحد لا يجرؤ أحد على خوضه إلا الواثقين.
لكن الدراما السورية قبل 2011 ليست كما بعدها، هي حقيقة يجب الاعتراف فيها وإن كان على مضض، فالاعتراف بالمشكلة جزء أساسي من الحل، وبداية الطريق الصحيح نحو التطوير بعيداً عن الانتقاد الجارح الذي ينتهجه بعض صناع الدراما الذين نسوا أنهم كانوا ومازالوا أحد مفاصل هذه الصناعة الثقيلة.
نمتلك قدرات وثروات وإمكانيات بشرية ومادية لكن ينقصنا التخطيط السليم والابتعاد عن التجاذبات التي تعوق تقدمنا.
الدراما تمتلك ضمنياً التأثير الأكبر في المجتمع وتبدو الأقدر على تغيير مفاهيم وقناعات الناس، وتحاكي مشاعرهم وتخاطب وجدانهم وذهنيتهم بعيداً عن المباشرة التي تعتمدها وسائل الإعلام.
لكن في بعض الأعمال تم بنجاح تسليع الدراما، وتحويلها إلى سلعة تجارية تباع لجمهور صنعته الآلة الإعلانية الضخمة لاستهلاكها بتعطيل عقله وشل استمتاعه بالفن، وذلك بالتركيز على إثارة مشاعره السطحية ورغباته الشهوانية نحو جرائم القتل والخيانة وبيع الجسد.

النتيجة النهائية

مسؤولية النتيجة النهائية للعمل تقع على عاتق المخرج، لكن النسبة الأكبر من المخرجين باتوا يتعاملون مع العمل الدرامي على أنه مصدر رزق بغض النظر عن الرسالة التي يقدمها للمجتمع.
معظم المخرجين لا يمرون بمرحلة التثقيف والتدريب التي كانت تحدث لمن قبلهم، ولذلك يقلدون ما يرونه في السينما، ويعتقدون أنهم حين ينفذون الكادرات القريبة من العمل الأميركي، يقتربون من العالمية.

التأليف
نناشد كتّابنا أن يسلطوا الضوء على الواقع وأن يعالجوا في كتاباتهم سلبياته وأن يحاولوا إبراز عواقب الاستخفاف بالقيم والأخلاق وخصوصاً في هذا الوقت الذي طغت فيه موجة التغريب التي أبعدت فئة لا بأس بها من المجتمع عن القيم ودفعتهم لتقليد النمط الغربي في الحياة كنوع من التقليد الأعمى.
خلال السنوات القليلة الماضية لم ترتق المعالجة التي طرحها كثير من النصوص إلى المستوى الاحترافي بل شابها الركاكة والعجز والتشتت وعدم التسلسل بخلق الأحداث.
مشكلة بعض الكتّاب تكمن بطرح أفكاره دون أن يعرف من أين يبدأ وكيف يختتم خطوطه، بل يتخبط في تقديم أحداث فارغة ومكررة بعيدة عن التخطيط والشكل العلمي.
بخلاف الحوار الساذج الذي يحمل تناقضاً بين طبيعة الشخصية ودوافعها النفسية والاجتماعية، أو ترى الجميع وهم يتحدثون بمفردات لغوية واحدة هي مفردات المؤلف، هذه الفوضى جاءت نتيجة طبيعية لسيطرة النجم وندرة المؤلف الأكاديمي المثقف.
مشكلة جديدة تكمن بظهور أسماء لا علاقة لها بالبناء الدرامي ولا الحرفة ككل، حتى إن كل من هب ودب بدأ يجرب الكتابة دون معرفة لهذه الثقافة ومداها على المتلقي.

العملية الإنتاجية
ومن أبرز التفاصيل التي تحتاجها الدراما السورية وجود أشخاص في العملية الإنتاجية يمتلكون الخبرة والرؤية الثاقبة والنفس الفني الحقيقي لصناعة الدراما، كذلك تحتاج إلى آليات صحيحة وحقيقية في تسوية العمل.
الدراما تحولت إلى عملية تجارية تخضع لميزان العرض والطلب فقط دون النظر إلى معايير أخرى، لذا تخرج أحياناً عن مسارها وهدفها النبيل.
تبيع شركات الإنتاج أعمالها بالعملة الصعبة، ما يعني أنها لم تتأثر بالظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب على سورية، ورغم ذلك لجأت إلى تقليص المصاريف والأجور متحججة بالأزمة.

المجتمع السوري
عندما تفقد الدراما أخلاقها وقيمها الإنسانية التي أنشأت لأجلها أصلاً، فإنها بلا شك تؤدي إلى الإفلاس الثقافي والهبوط الاجتماعي وتدني في مستوى الحوار حتى يبدو حواراً بيزنطياً لا طائل منه.
لا يختلف اثنان على أن أهم وظائف الدراما تسليط الضوء على الواقع المعيش، لكن بعض الأعمال شوّهت المجتمع السوري.
نلحظ هذا العام انتشار ظاهرة جديدة وخطيرة تتمثل بانتقال عدوى «السينما التجارية» إلى الدراما، فعوامل الجذب التي يخاطب بها صناع الفن السابع لحصد أكبر قدر من الأموال في شباك التذكر أصبحت تتوارد في التلفزيونات، بعيداً عن الأفكار الهادفة والبناءة.
لذا أصبح الحديث عن المحرمات أمراً يسيراً، ولتفرض مشاهد الإغراء والإيحاءات الجنسية على البيوت والعائلات بموضوعات سطحية ورغبات تافهة ونماذج مستهلكة واستغلال الجسد لأهداف ربحية واعتبار المرأة كائناً من الدرجة الثانية.. أو حتى العاشرة.
إضافة إلى ذلك استخدام ألفاظ ومشاهد تخدش الحياء بات أمراً اعتيادياً، بل أصبح هناك استثمار تجاري لمثل هذه الألفاظ التي فيها من الإباحية الكثير، وهناك تعمد مسبق لاستخدامها بهدف اجتذاب قطاع أكبر من الجمهور، لكن الاستخدام المفرط لهذه الألفاظ في قد ينفر الناس ويؤدي إلى نتائج عكسية، فالبيت السوري والعربي محافظ بشكل عام.
المواهب الشابة

الاهتمام بالوجوه الشابة واجب، ولكن بدراسة متأنية وعناية دون السماح للمتطفلين باقتحام ساحة الدراما، لأن «اللي فيها مكفيها».
الوجوه الجديدة أصبحت أمراً واقعاً، وبما أن الإنتاج يتعامل مع العنصر المادي وعاملي السوق والتسويق في العرض والطلب، فيجب أن تكون من أولوياته التعاطي مع ذائقة الجمهور بطريقه أكثر منطقية وأكاديمية وإبعاد عنصر الملل والتكرار عن المتلقي ليكسب حالة التجدد.
وبكل الأحوال، الدراما السورية غنية بمواهبها، وليست بحاجة لهذا الكم الكبير من الممثلين العرب الذين ضربوا وقتاً مع النجومية بفضل ظهورهم معنا على حساب السوريين.

الرقابة
للرقابة دور مفصلي في ضبط الفوضى الدرامية من خلال فرض معايير أخلاقية تفرض على النصوص، وعدم تمرير أي فكرة تسيء لمجتمعنا، وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها.
وبما أن الأعمال التلفزيونية تدخل كل بيت دون استئذان، فإن ثمة حاجة ماسة لضبط الألفاظ الخارجة أو الجريئة التي يرفضها مجتمعنا، وبالفعل يتم نقلها على لسان المشاركين في بطولة المسلسلات فيفقد العمل قيمته وتشوهه تلك المشاهد والألفاظ الخادشة للحياء ولو كان عملاً جيداً.

الشللية
«اللعب على المضمون» شعار تمسك به صناع الدراما هذا العام ما فتح مجدداً ظاهرة الشللية التي سادت في الفترة الأخيرة من أجل ضمان النجاح.
الشللية ظاهرة نهشت جسد الدراما، حتى إن هوية المخرج صارت تدور في الأذهان فور متابعة عدة مشاهد دون العودة إلى الشارة.

مرحلة خطيرة
إن الطفل في السنوات الست الأولى من عمره تستطيع أن تغرس فيه القيم، فهو عجينة سهلة التشكيل، والثالوث الأسرة والمدرسة والمجتمع كان المؤثر الأساسي فيه، لكن الآن أصبح التلفزيون هو المربي التعليمي الإلكتروني والأصل في غرس القيم.
إن أخطر مرحلة عمرية لدى الطفل هي من 7 إلى 11، فهو لا يميز، لذا يتقمص شخصية الأبطال ولا يفصل بين عالم الواقع والخيال فيقلد، لكن أعمالنا الدرامية تخفض من مستوى نموه العقلي، فتفكيره يكون جامداً، وتقتل العنصر الخيالي والإبداعي لدى الكثير من أطفالنا، وخاصة بعدما أصبحت منتجاً ثقافياً يخضع كما تخضع له السلع التجارية، بعيداً عن التوازن بين الثقافة والتجارة.

استباحة
مشكلتنا بالعموم أننا غير قادرين على تشخيص المشكلة، ومن الضروري أن نقوم بذلك حتى نتمكن من حلها، والمشكلة الأكبر أن كل شيء أصبح مستباحاً.
لا يتمكن أي شخص من العمل بمهنة الطب إن لم يحصل على شهادة بمجاله، ولا يتمكن من العمل كميكانيكي إن لم يعمل لفترة طويلة كصانع كي يحصل على الخبرة، لكن في الدراما السورية، يتمكن أي شخص من كتابة نص وبعدها يقدمه لشركة إنتاج كي تتبناه بموجب علاقاته الشخصية.
أيضاً أي شخص قادر أن يصبح ممثلاً أو مخرجاً تبعاً لعلاقاته بغض النظر عن النتائج التي تقوم بكشف الحقيقة.
إذاً، ضمن مجتمعاتنا العربية أصبح كل شيء مستباحاً ومن حق كل شخص أن يستولي على كل شيء ويستبيحه ويتطفل عليه.
هناك قول: «رحم اللـه امرأً عرف حده فوقف عنده»، لكن بمجتمعاتنا لا يوجد من يعرف حده ويقف عنده، فبإمكان أي شخص أن يتطفل على مهنة الكتابة، وكذلك الأمر على باقي المهن كالتمثيل والإخراج وغيرها، فنحن نستبيح كل شيء وليس لدينا مفهوم الاختصاص ونفتقر له حتى بمؤسساتنا، ومن أكبر الأخطاء التي نرتكبها هو توظيف شخص بمكان لا يتناسب مع دراسته أو اختصاصه، فهو بالنتيجة يقدم على التخريب والفساد وليس العطاء والإنجاز.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن