ثقافة وفن

«الصين» الفعل المؤسس لنظام عالمي جديد الجذور والمسار يبين حدود الصين وطموحاتها في الإصرار على الحياة والاندفاع لأجل إثبات وتعزيز الوجود

| سوسن صيداوي

«اطلبوا العلم ولو في الصين» كثيرا ما سمعنا هذه المقولة، حيث نُسبت إلى الرسول العربي محمد، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الصينيين لم يغزوا أحدا عبر العصور، ولم يتأثروا بأحد، فحافظوا على جنسهم وعاداتهم وتقاليدهم، كان احتكاكهم عبر منتجاتهم وتبادلها مع شعوب الأرض قاطبة، وليس طريق الحرير إلا تعبيراً عن حضورهم المتزن الملتزم والمتحكم لقواعد صارمة قادمة من روح كونفوشيوس الفيلسوف العظيم وتعاليم بوذا الدقيقة، لذلك نجدهم يفرقون بين عملهم وروحانياتهم، وفي الوقت ذاته، يمتلكون الإصرار على الحياة مندفعين من أجل إثبات وتعزيز وجودهم. الكلام أعلاه يعود للدكتور نبيل طعمة في تقديمه لكتاب (الصين-الفعل المؤسس لنظام عالمي جديد الجذور والمسار/حدود وطموحات) من تأليف: د. بسام أحمد أبو عبد الله، د. زياد جورج أيوب عربش، أ. ميلاز هاشم مقداد. الصادر عن دار«الشرق» للطباعة والنشر، من القطع الكبير، بواقع 355صفحة، يعرض الكتاب عبر فصوله الخمسة مسار التحولات الكلية للصين وبجذورها وأبعادها الثقافية والاقتصادية والسياسية.

غرضٌ في المحتوى
بداية تحت هذا العنوان تجدر الإشارة إلى أن غرض هذا الكتاب هو عرض لتطور مكانة الصين بنقاط قوتها وضعفها وبعلاقاتها العالمية، وانعكاسات وآفاق هذه المكانة على التوازنات الكلية، وهو موجه لملمي القراءة باللغة العربية في العالم. أما عن المحتوى، فكما أشرنا أعلاه، الكتاب مقسّم إلى خمسة فصول، فيأتي الفصل الأول من كتابنا «الصين» كتمهيد يرسم الصورة الكلية لكل البحث المقدّم، في حين يُعنى الفصل الثاني بالجذور الثقافية للحضارة الصينية والبعد الأممي للصين الجديدة. ليبين الفصل الثالث مسار تطور العلاقات الدولية السياسية بمكونها الحالي وآفاق ومآلات النظام الجديد قيد التشكل. في حين يحلل الفصل الرابع المكون الاقتصادي من إستراتيجية التموضع العالمي للصين، أي المسار والثقل، عبر قراءة تطور مكانة الصين خلال الحقبة الزمنية الطويلة وصولا إلى مرحلة الإقلاع والنهوض من مرحلة الاقتصاد الحديث المعولم، مع تحليل محوري الطاقة والتوازنات العالمية وإشكالية تأمين الإمدادات والتلوث البيئي، وثورة تكنولوجيا المعلومات الصينية الصنع كمحرك للاقتصاد العالمي، ليبين صراعات النفوذ الجيو اقتصادي، من خلال دور الصين ضمن مجموعة البريكس والرؤية الإستراتيجية لمبادرة الحزام والطريق، وكفصل أخير وخامس، يختم هذا الكتاب بتبيان حدود النمو والطموحات، أي التحديات الصلبة التي قد تحدث انكسارا في النموذج السائد إن لم تحل، كمعالجة الاختلالات الداخلية والتفاوت بمستوى المعيشة بين الأرياف والمدن، وتحقيق التنمية المتوازنة، وحل قضية الشيخوخة السكانية التي ستزيد من العبء الاقتصادي كاستحقاقات الضمان الاجتماعي، ومواجهة القضايا البيئية التي لم يعد ينظر الصينيون إليها بأنها ترف، بل كضرورة حتمية، ناهيك عن التحدي المستمر والمتنامي بضرورة الإصلاح الشامل للبنية الحاكمة في الصين وتعزيز الشفافية والمسألة والعدالة.

الصين الناعمة
قبل قرنين من الزمن وصف نابليون بونابرت الصين بأنها «أسد نائم وعندما يستيقظ سيهز العالم». ومع ذلك لا يترك المسؤولون الصينيون وفي مقدمتهم الرئيس شي جين بينغ مناسبة إلا ويؤكدون جميعاً أن «الأسد الصيني» المستيقظ هو«مخلوق سلمي وممتع ومتحضر، من دون أي نية لتهديد أحد». حيث تعتبر الصين بأن صعودها ليس لمصلحتها وحدها، ولكن لمصلحة العالم كله، لأنها تسعى لخلق عالم أكثر عدالة وتوازناً، فاستطاعت أن تحقق إنجازات مهمة في حركة التنمية والتحول الحضاري، وتسارعت الخطا مع ثورة التصحيح عام1978التي قادها دينغ شياو بينغ، ومنذ أربعة عقود خلت بات واضحاً للجميع أن الصين تعود، لا بل تخيف. فمن ثورة الشعب الصيني1949 وعبارة ماوتسي تونغ الشهيرة والواردة في خطابه أثناء المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي الصيني «إن تخطي الولايات المتحدة ليس ممكنا فحسب، بل أمر ضروري جداً وإجباريا. إذا لم نحقق ذلك، ستخذل الأمة الصينية أمم العالم، ولن يكون لنا إسهام كبير في البشرية». هذا كما تدعو الصين شعوب الدول إلى توحد الجهود لبناء مجتمع مضيء مشترك للبشرية، وتشييد عالم نظيف، وجميل يسوده السلام الدائم، والأمن الشامل، والرخاء المشترك، وكذلك الانفتاح مع التسامح، من خلال الدعوة لضرورة الاحترام المتبادل، والتشاور المتكافئ، ونبذ عقلية الحرب الباردة، وسياسة القوة بحزم، وسلوك طريق جديد للتواصل بين الدول والحوار لا المجاملة، والشراكة لا الانحياز، حل النزاعات عبر الحوار، وإزالة الخلافات عبر التشاور، والتخطيط الشامل لمواجهة التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية، ومعارضة الإرهاب بكل أشكاله. هذا ومما يوضحه الكتاب بأن الصين لا تسعى إلى بلوغ التنمية الذاتية على حساب مصالح الدول الأخرى. وتنمية الصين لا تشكل تهديدا على أي دولة أخرى. لكنها لن تتخلى أبدا عن حقوقها ومصالحها الشرعية. ولن تسمح لأي جهة بإجبارها على «ابتلاع ثمرة مرّة تضرّ بمصالحها الخاصة». كما تواصل الصين بثبات انتهاج سياسة خارجية سلمية مستقلة تقوم على احترام حقوق شعوب العالم في اختيار طريقها التنموي حسب رغبتها، وحماية الإنصاف، والعدالة الدولية، ومعارضة فرض إرادة أي دولة على غيرها، وتدخلها في شؤون غيرها، حيث تنتهج الصين سياسة ذات طابع دفاعي، ولن تسعى أبدا وراء الهيمنة، ولن تقوم بالتوسع الخارجي أبدا. وحسب الفصل الأول من كتابنا «الصين» يبين بأن الشركات الصينية اكتسبت خبرات لا تقل عن مثيلاتها الغربية كالشركات المتعددة الجنسيات، وتتعاون معها ثم تتنافس معها، حيث أصبحت الصين «بقوتها الناعمة» المقصد الأول للاستثمارات الأجنبية المباشرة. ولا شركة تدعي أنها عالمية أميركية كانت أو أوروبية إن لم يكن لها فرع أو نشاط في الصين (لم يعد هناك مفر من صنع في الصين، فهي معمل العالم).

أول اقتصاد في العالم
يشير كتابنا (الصين) إلى النجاح الحقيقي الذي حققته والكامن في قدرتها المستقبلية على تجاوز السياسات وتنازع القيم الداخلية التي تحدّ من قوتها الناعمة، كخشية الحزب الشيوعي من السماح بقدر أكبر مما ينبغي من الحرية الفكرية وسعيه المثابر لمقاومة التأثيرات الخارجية، فضلا عن الفساد الحكومي في قطاعات مختلفة من مؤسساتها. غير أن الأهم من هذا كله، هو ما يلقى على كاهل الصين اليوم، وهي القوة الصاعدة إلى مرتبتها المرتقبة كأول اقتصاد عالمي بين أولئك الذين يهيمنون على العالم ويفرضون إرادتهم على الآخرين، وكيف ستتابع تبوّءها لهذا المركز مع بداية الحرب التجارية التي بدأ بشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ بداية عام 2018 ليس فقط تجاه الصين بل مع الحلفاء ككندا والاتحاد الأوروبي أو المكسيك وتركيا، انطلاقا من شعاره الانتخابي «أميركا أولا». والآن أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى تمد أذرعها في كل مكان ببطء وثقة، ومسلحة بنفوذ عسكري بامتلاكها أحد أكبر جيوش الكوكب وتوازن ردع نووي، ونفوذ اقتصادي كحامل للنمو في آسيا وعبر النهضة في البنية التحتية الإقليمية، فإن القدرات المادية المتزايدة والتي ليس أقلها احتياطيا نقديا يتجاوز التريليوني دولار، مع خطوات عملية لتدويل عملتها اليوان، وصناعة لوبي صيني قوي وموحد في قلب الولايات المتحدة، أكسب لعضويتها في مجلس الأمن أهمية إضافية.

في سبيل التلخيص
تحت هذا العنوان يبين الكتاب بأن دراسة الصين بمكوناتها الثقافية والحضارية ومكونات قوتها الاقتصادية والعسكرية البارزة والكامنة، وتجربتها الاقتصادية والسياسية المستندة إلى إرثها الحضاري، تكشف لنا محركات لا يمكن تحييدها، لأي قراءة موضوعية، والتي ليس أقلها دور القيادات والنخب الصينية بشخصيتها القوية، وتميزها العالي بروح المسؤولية، والتداول السلس للسلطة، والقدرة على المزاوجة بين التكوينات والتراكيب والمنطومات الثقافية والسياسية والعسكرية والإدارية، ما جعل من قرارات الصين تتسم بقدر كبير من العقلانية والفعالية، والأهم من ذلك التموضع العالمي للصين في مسارات ذاتية الدفع والاستدامة. وفي الختام يبقى السؤال مطروحا:هل ستتمكن الصين من تجاوز التحديات الداخلية والخارجية الحالية وقيد التشكل، وخاصة مع اعتبار أقطاب عديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تبلور نظرة أكثر«هجومية» وأقل ودية؟ وهل تحالفاتها الحالية والمستقبلية أو دورها ضمن مجموعة البريكس وتنفيذ مبادرة الحزام والطريق، ستبلور نظاما جديداً للعلاقات الدولية منفصلا تماما عن الماضي، أم سيكون استمرارا للنظام العالمي الكلي بصيغته الحالية وبطابع أكثر صينية، كعولمة بنسختها الصينية الحديثة؟ هذا وإذا كانت الصين في ظل سياستها الهادئة المتزنة تبتغي التعاون والشراكة وليس الهيمنة، فإن إستراتيجية الأقطاب الأخرى قد لا تسمح لها بإنجاح نموذجها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن