ثقافة وفن

عبد السلام العجيلي وحكاية الأدب والطب … من «بنت الساحرة» قدم العجيلي مثال التجديد الذي حافظ عليه حتى آخر أعماله

| سماء صبري

شهد النصف الأول من القرن العشرين سلسلة من التطورات السياسية والاجتماعية والفكرية انعكست على عالم الأدب فبدأ مفهوم الأدب الحديث ينتشر في الأدب العربي بعد التلاقح الذي حصل أثناء البعثات الدراسية إلى أوروبا التي أدت إلى ازدهار حركة الترجمة والتعريب بما فيها من تأثر وتأثير فشهدنا أنواعاً أدبية جديدة في شكل الأدب ومضمونه كالرواية والقصة والمقالة والشعر النثري، وبتطور الصناعة والتجارة في المدن الكبرى في منطقتنا السورية تبلورت طبقة اجتماعية جديدة كانت تمثل العصب الأساسي للتغير الاجتماعي في تلك الفترة ما انعكس على الأدب الذي كان ولم يزل مرآة للواقع السياسي والفكري والاجتماعي برز جيل جديد من الأدباء الذين امتازوا بثقافتهم العصرية الجديدة فساهموا في تشكيل الحركة الأدبية العربية الحديثة أمثال الأديب سعيد حورانية والأديب حسيب كيالي والأديب الطبيب عبد السلام العجيلي الذي ولد في مدينة الرقة السورية عام ألف وتسعمئة وثمانية عشر من القرن الماضي، وكان فردا من عائلة كانت أول من استقر في بيوت حجرية وهجرت حياة الرعاة وانصرفت إلى الزراعة.

تميزت عائلة العجيلي بكثرة متعلميها بمجتمع تسوده الأمية حتى إن العجيلي كان يقرأ ما يقارب المئة كتاب كل عام، قام والده ببيع قطعة أرض بجانب الفرات ليسمح لابنه باستكمال تعليمه، فدرس العجيلي في دمشق وتابع نشاطه السياسي الطلابي مشاركا في التظاهرات ضد سلطات الانتداب الفرنسي.
عاد العجيلي إلى مدينته الرقة بعد تخرجه طبيبا في الجامعة السورية وأنشأ عيادته الخاصة ليزاول مهنته الإنسانية محققا ما كان يصبو إليه منذ صغره إذ كان يقول: (عندما اكبر أريد أن أعمل ما أستطيع أن أخفف به آلام كل مريض، أريد أن أصبح طبيبا).
ورغم تحقيقه لطموحه العلمي إلا أن الحياة السياسية استمالته فشارك في الانتخابات النيابية وفاز بمقعد نيابي في المجلس النيابي السوري ممثلا عن مدينة عشقه الأزلي مدينة الرقة السورية، كان ذلك في مرحلة سياسية مفصلية قضت بتقسيم فلسطين فما كان من نائب مدينة الرقة إلا الانضمام إلى جيش التحرير الفلسطيني، تجربة نضالية فعالة دونها العجيلي في كتابه (فلسطينيات) يقول في ذلك: (من سوء الحظ كذلك أن سير أمورنا القومية منذ عام ثمانية وأربعين وحتى اليوم جاء مؤيدا لتقديراتي السيئة عن وضعنا وإمكانياتنا، تلك التقديرات التي وضعتها لنفسي منذ ذلك الحين).
أما علاقته بالإبداع فتعود إلى عهود يفاعته الأولى حيث بدأ بكتابة قصص بوليسية مدفوعا بولعه بهذا النوع من القصص، ومن ثم مال إلى كتابة مذكراته الشخصية متأثرا بما قرأه للأديب الألماني غوته في الام فرتر، كما كتب العجيلي القصائد المقفاة وغناها على ألحان بعض القصائد الدينية مما يحفظ لكي يستقيم وزنها. ظلت الكتابة سرا من أسرار العجيلي حتى حصل على الشهادة الثانوية فنشر عام ستة وثلاثين قصته الأولى (نومان) بتوقيع ع، ع في مجلة الرسالة المصرية المرموقة.
كذلك نشر قصصا وقصائد وتعليقات في مجلة المكشوف اللبنانية وفي سواها من الدوريات الدمشقية، بأسماء مستعارة إلى أن كشف السر سعيد الجزائري، فاز بعد ذلك الأديب والطبيب عبد السلام العجيلي بجائزة مسابقة القصة التي نظمتها مجلة الصباح عن قصة (حفنة من دماء).
ثم أصدر مجموعته القصصية الأولى (بنت الساحرة) التي كانت مثالا للتجديد في الأدب والكلاسية الجديدة، فكانت قصة أدبية علمية استطاع العجيلي أن يجمع بها بين اللغة القصصية والعبارات العلمية وفيها يقول العجيلي في حوار له مع صدقي إسماعيل: (كنت شديد الالتزام لفكرة علمية معينة فكان جهدي في قصصي تلك أن أبين ضعف الفعل وقدرة العلم في إدراك خفايا النفس).
نظم العجيلي بعد ذلك مع عدد من الكتاب الظرفاء (عصبة الساخرين) وكان من أعضائها سعيد الجزائري وعبد الغني العطري وعبد السلام العجيلي وهو من اقترح اسم الرابطة ومحتواها الساخر.
بعد مجموعته القصصية الأولى (بنت الساحرة) كتب العجيلي عدة مجموعات قصصية فكانت المجموعة القصصية (ساعة الملازم) و(قناديل اشبيلية) ، و(الخيل والنساء)، وظلت تتوالى أعماله القصصية الثرية حتى عام ألفين وثلاثة حين أصدر المجموعة القصصية (سعاد وسعيد).
أما الرواية فقد كتبها العجيلي في نهاية الخمسينيات فكانت رواية (باسمة بين الدموع) الرواية التي حازت شهرة كبيرة وتحولت إلى فيلم سينمائي.
تلتها رواية رصيف العذراء الأسود عام الستين، ثم رواية قلوب على الأسلاك، ورواية ألوان الحب الثلاثة وهي بالاشتراك مع الكاتب أنور قصيباتي ورواية (المغمورون)عام تسعة وسبعين.
بعد هذه السلسلة من الروايات توقف العجيلي عن كتابة الرواية مدة تقارب العشر سنين وعاد عام ثمانية وتسعين برواية (أرض الأسياد) وخاتمة رواياته كانت رواية (أجملهن) عام ألفين وواحد يقول عن شغفه بالأدب: (كثيرا ما أردد كلمة تشيخوف حين قال الطب زوجتي والأدب عشقي).
شغل العجيلي ثلاث وزارات مفصلية (الخارجية والثقافة والإعلام) إلا أنه لم يبتعد عن الأدب، بل إن أعماله الأدبية امتازت بحصيلة تجاربه السياسية والمعرفية والاجتماعية، أضفى عليها إحساسه الإنساني العالي، وروح الدعابة واستطاع مزج الحكائية والواقعية بالخيال فكان عالمه الأدبي المتميز.
كتب العجيلي المقالة والمحاضرة والخاطرة الأدبية والمسرحية والمقامة والشعر وأبدع في الشعر الوجداني والرومانسي الذي تجلى في ديوان الليل والنجوم، وأجاد في قصيدته التي رثى بها ابنه مهند ورغم ذلك الحزن الشفيف الذي تداعى في شعر العجيلي بهذه المناسبة الحزينة إلا أن طرافة روحه طغت على بعض أشعاره فقد عرف عنه أنه حول معادلة كيميائية إلى قصيدة شعرية، لطالما أحب العجيلي الشعر وأعده جزءاً من المنولوج الذاتي.
يقول: (إنني مذ نظمت الشعر كنت أحس بأن هذا الذي أنظمه همسات بيني وبين نفسي).
اعتبرت أعمال العجيلي الأدبية من أهم ما كتب في الأدب العربي الحديث فترجم بعض منها إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والروسية، ودرس العديد منها في المدارس والجامعات وصنفت كمرجع أساسي في الأدب، واستشهد بأدبه عدد من الكتاب الأوروبيين أمثال الفرنسي (جان غوليميه): إذ قال: (غوته. ساتندال. وفلوبيير. أسماء أعلام في الأدب مشهورة وعبد السلام العجيلي يستحق أن يكون من أساتذة الرواية الكلاسيكية).
أعوام عبد السلام العجيلي التي قاربت على التسعين كانت مفعمة بطاقة الحياة فكان الابن والزوج والأب والطبيب والأديب والرسام والحكواتي والسياسي والوزير الذي لم تستلبه أضواء الحياة الثرية والأسفار والنجومية من عشقه الأزلي لمسقط رأسه الرقة التي عاش بها عاشقا لها وواراه ثراها بمأتم رقاوي شعبي كما كانت وصيته، فكان عبد السلام العجيلي قمرا لمدينة سورية غافية على ضفاف الفرات، وكان كما وصفه أدونيس (قمر الرقة ينام على مخدة الفرات)، توسد العجيلي رمال مدينته الرقة التي طالما عشقها وارتقى أيقونة إلى سمائنا السورية مسلما روحه العذبة إلى بارئها في الخامس من نيسان عام ألفين وستة بعد مسيرة عامرة اختصرت الأدب والعلم، الحب والحزن، الطرافة والسياسة، في حياة أديب سوري من طراز رفيع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن