قضايا وآراء

إدلب: إحداثيات جديدة في سورية والشرق الأوسط

| مازن جبور

الحشد الكبير للتنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة لاستعادة السيطرة على بلدة كفر نبودة بريف حماة الشمالي، والدعم التركي المباشر لها، والذي ترافق مع تباكي غربي وعربي وأممي مع ما تسمى «المعارضة» على الإرهابيين هناك، يجب ألا يكون أمراً مستغرباً، إذا ما تم النظر إلى معركة إدلب من زاويتها الصحيحة باعتبارها ستعيد رسم إحداثيات ملف الحرب على سورية بما يعيد ضبط موازين القوى في الشرق الأوسط بوجه كامل.
لا بد من إدراك التغيرات الكبيرة التي من الممكن أن تحدثها استعادة إدلب على ملف الأزمة السورية، إذ إن استعادة المحافظة يعني فيما يعنيه القضاء على التنظيمات الإرهابية في سورية كتنظيمات، خصوصاً أنه بعد القضاء على تنظيم داعش الإرهابي كتنظيم شرق الفرات، لم يتبق إلا تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي والتنظيمات الأخرى المتحالفة معه، وهو ما سيفقد داعمي الحرب على سورية ورقة قوية للضغط على الحكومة السورية وعلى الوجود الروسي في سورية.
من جانب آخر فإن استعادة شمال البلاد بعد القضاء على «النصرة»، يعني حتمية خروج تركيا من المنطقة باعتبار أن مزاعم بقائها في المنطقة وهو محاربة الإرهاب وضمان حدودها بحسب ادعاءات مسؤوليها، لم يبق، مركز هذا التهديد، في الشمال الغربي من سورية، بل بات مركزه في الشمال الشرقي باعتبار أن تركيا تصنف «وحدات حماية الشعب» الكردية كـ«تنظيم إرهابي»، وهو ما يعني زيادة في حدة الخلافات التركية الأميركية بخصوص الملف الكردي وملف ما تسمى «المنطقة الآمنة» المزعومة، وما يفسر ذلك المساعي الأميركية الكردية للتقارب بين تركيا والكرد، ومما يؤكده ما أشيع مؤخراً حول وساطات وحوارات بين أنقرة و«قوات سورية الديمقراطية – قسد» حول «الآمنة»، بالإضافة إلى مطالبة الزعيم الكردي عبد اللـه أوجلان برسالة وجهها إلى كرد سورية، بالأخذ بعين الاعتبار الحساسيات التركية في سورية.
من الملاحظ أن أكثر من تباكى على «النصرة» وحلفائها وسعى لحمايتهم من العملية العسكرية للجيش العربي السوري وحلفائه هم الأجنحة السياسية لتلك التنظيمات الإرهابية، أي «هيئة التفاوض» المعارضة، و«الائتلاف» المعارض، وهؤلاء يدركون أن عليهم البكاء كثيراً مع كل خطوة يتقدمها الجيش في الشمال، إذ إن القضاء على التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة في الشمال يعني إلغاء وظيفة كل من «الائتلاف» و«هيئة التفاوض» وكذلك يعني موت ذكرى مفاوضات جنيف وحتى اضمحلال دور محادثات أستانا لحل الأزمة السورية.
وإن كانت عملية الجيش في الشمال ليست بالعملية السهلة والقصيرة المدى، بل ستمتد، ومن الممكن أن تتم على مراحل، إلا أنها ذات نهاية محتومة بانتصار الجيش العربي السوري على الإرهاب، وهو ما يعني انتقال لهيب المعارك والفوضى إلى شمال شرق البلاد، وبالتالي وضع القوات الأميركية في المنطقة في دائرة الخطر، الأمر الذي سيجعل واشنطن تعيد التفكير ملياً بقضية بقاء قواتها الاحتلالية على الأراضي السورية، ولعل رسالة المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري كانت واضحة بهذا الشأن حين أشار إلى أن علاقة واشنطن مع «قسد» هي علاقة عسكرية وليست علاقة سياسية، أي ترك الباب مفتوحاً أمام إدارته للنزول عن الشجرة وقت الضيق للهروب من سورية.
في الوقت ذاته تحمل تصريحات جيفري مؤشراً مهماً يتمثل بالرغبة الأميركية بإعادة احتواء تركيا التي تكتوي لموت مرتزقتها شمالاً، ويحتوي كلام جيفري على رسائل دفع لـ«قسد» للذهاب بعيداً عن خيار الحوار مع الدولة السورية باتجاه إيجاد أفق للتفاهمات مع تركيا بما يحقق المصالح الأميركية التي تتعرض لضغوط اقتصادية وسياسية في الشرق الأوسط وعلى مستوى العالم.
لابد أن روسيا تدرك حجم الخطر الذي بات يحيط بها مع المخططات الأميركية الجديدة للمنطقة وخاصة مع الحشد العسكري الأميركي في الخليج العربي والعودة الأميركية القوية لاستمالة تركيا الشريك في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، إذ ستتحول تركيا إلى تهديد لروسيا في المياه الدافئة، مما سيسبب ضغطاً كبيراً عليها في سورية، ومن هنا تأتي أهمية العملية العسكرية الدائرة بريف حماه الشمالي الغربي، الأمر الذي أدركته موسكو ما دفعها على ما يبدو إلى الاستماع للمطلب السوري باستعجال إطلاق العملية العسكرية هناك، ولعل ما بعد استعادة إدلب ستعيد روسيا إستراتيجيتها في المنطقة وعلى رأسها سياستها القائمة على أساس احتواء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
إذاً، لقد أدرك الروس الخطر المحدق بهم في الشرق الأوسط وحجم التهديدات الممكنة إذا ما بقيت إدلب خارج سيطرة الدولة السورية، ومن ثم فإن أية إستراتيجية روسية جديدة في المنطقة يجب أن تكون شاملة وتعتمد على الأحلاف المناهضة لأميركا في المنطقة.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن إحداثيات الملف السوري ما بعد إدلب ليست كما قبله وسط مؤشرات على بدء محاصرة محور حلفاء سورية من داخل سورية ذاتها، من خلال طروحات ومبادرات تحمل رسائل ضمنية إلى الدولة السورية، وهي تثير أسئلة وهواجس أكثر مما يمكن أن تفضي إلى تحليلات واستنتاجات، ومن هذه النقاط:
زيارة الوفد الهندي إلى دمشق وما تبعه من إصدار السفارة الهندية لبيان ورد فيه إعلان نيودلهي مباشرتها المشاركة في عملية إعادة الإعمار في سورية إلى جانب دمشق، وما يثير الهواجس والتساؤلات حول هذا الإعلان، هو التناقض بين العقوبات الأميركية الغربية على سورية وبشكل خاص الإعاقة المتعمدة لعملية إعادة الإعمار وبين العلاقات الأميركية الهندية، كيف لنيودلهي أن تتجاوز واشنطن وتعلن إعلان كهذا في ظل موقف الأخيرة من إعادة الإعمار، وما المؤشرات التي تحملها خطوة كهذه من قبل الهند في ظل صمت أميركي حيالها؟
إن إشارة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا إلى إمكانية عقد اجتماعات بين المخابرات السورية والتركية، بما يؤمن وقف القتال في سورية، وإن كان يحمل رسالة مبطنة إلى دمشق مفادها دعوة لحوار من نوع ما، إلا أنه في الوقت ذاته يتقاطع مع إعلان نيودلهي من حيث الشكل باعتبار أنهما مؤشران على رسائل تنقل إلى دمشق لدعوتها لتفاهمات جديدة خارج إطار علاقاتها مع حلفائها وعلى وجه الخصوص الظهور الصيني المكثف على خط الملف الاقتصادي السوري مؤخراً.
بالترافق مع المؤشرات السابقة كان لافتاً أيضاً تركيز وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي على ما سماه «مركزية مسار جنيف في الجهود الدولية المستهدفة حل الأزمة السورية»، وذلك خلال استقباله المبعوث الأممي الخاص إلى سورية غير بيدرسون، وهو أمر يتقاطع مع المسعى الأميركي لإعادة إحداثيات الحل السياسي للأزمة السورية إلى جنيف، بما يؤمن سحب هذا الملف من ضامني (روسيا وإيران).
يدرك الجميع وعلى رأسهم روسيا أن معركة إدلب هي معركة تحديد موازين القوى الجديد في سورية والشرق الأوسط، كما أنها معركة الحفاظ على وحدة وسيادة واستقلال سورية بالنسبة للدولة السورية وللسوريين، ومن يحسم هذه المعركة فإنه سيعيد ترتيب إحداثيات الملف السوري وملف الشرق الأوسط بأكمله، وسيحسم مستقبل المنطقة، وسيعيد تشكيل الأدوار الإقليمية والعلاقات في المنطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن