ثقافة وفن

الناقد.. محمد مندور مكانة اجتماعية وفكرية وثقافية

| د. رحيم هادي الشمخي

في الخمسين من عمره، وحتى لحظة وفاته، كان قد بلغ مكانة اجتماعية وثقافية وفكرية يُحسد عليها، وكانت مؤلفاته ومقالاته وأحاديثه الإذاعية والتلفزيونية، قد وجدت طرقها إلى العقول والقلوب والأذهان والأفكار، وكان قرّاؤه وتلاميذه ومريدوه قد بلغوا الآلاف عداً، هنا وهناك وهنالك، ومع ذلك كله فإنه حرص على أن يقبّل يد والدته، وعلى أن يقف في أدب وخشوع وإجلال أمام والده.
تدرّج في مراحل التعليم الرسمي، حتى حصل على درجة الليسانس في الآداب، وجاء عليه وقت في بداية حياته الجامعية كان فيه دارساً للقانون في كلية القانون، ودارساً للغة العربية وآدابها في كلية الآداب، وطالباً في قسم الاجتماع في كلية الآداب أيضاً، واختارته جامعة القاهرة في بعثة إلى فرنسا، حيث يدرس في (السوربون)، إذ قضى هناك تسع سنوات، ثم عاد محتفظاً بقيمه وعاداته وتقاليده الوطنية، وكأنه لم يخرج من وطنه وقريته مطلقاً، تواضع ملحوظ في التعامل، صوت هادئ خجول، بعيد عن الغرور، وفي أواخر 1944 قدّم استقالته من الجامعة، وبعدها بعشر سنوات أغلق مكتب المحاماة ثم تفرّغ للتدريس والتأليف والكتابة في الصحف والمجلات التي صدرت إبان حياته، منها (المصري) و(الثقافة) و(الوفد المصري) و(الهدف) و(صوت الأمة) و(الشعب) و(الجمهورية) و(البعث) و(الكاتب) و(روز اليوسف) وغيرها، كما شارك في كل لجان القراءة وأسهم بكتابة التقارير النقدية الموضوعية بصفة دائمة ومتصلة، وحاضر في الكليات المختلفة، والمعاهد المتنوعة، وحضر معظم الندوات الأدبية والفكرية والثقافية، وشاهد كل العروض المسرحية ليكتب عنها، وتابع كل ما كانت تصدره المطابع بالتحليل والتوجيه والنقد، ويبدو عدم وجود وظيفة ثابتة، ذات دخل محدود ومعاش مضمون جعله قلقاً على مستقبل أبنائه، ما دفعه إلى مواصلة العمل والتفاني فيه ليلاً ونهاراً، وكان قد ألف العناء المتواصل والجهد العنيف منذ فترة جهاده السياسي.
كانت تلك الفترة بالغة الصعوبة في حياته حين دخل انتخابات عام 1950 وفاز فيها فوزاً عظيماً، إذ رُشح عن دائرة (السكاكيني) في القاهرة ومن خلال البرلمان اقتحم معارك ضارية ضد المستعمرين الإنكليز، وشارك في الجهود التي بُذلت من أجل إلغاء معاهدات السيطرة الاستعمارية في مصر والسودان، وظل رهن التحقيق 46 يوماً في تموز وآب 1946، كما دخل وحده معارك أدبية متباينة مع كل من (طه حسين وعباس محمود العقاد، وزكي نجيب محمود، ورشاد رشدي، ومحمد خلف الله)، ألّف ثلاثين كتاباً في الأدب والنقد والمسرح، ترجم أكثر من عشرة كتب، كما أنه كتب مئات المقالات التي لم تجمع بعد، دعا إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وناصر الفلاحين والعمال، وانحاز إلى الديمقراطية عندما طالب بضرورة التحام المثقفين بالجماهير الكادحة وقيادتهم وتوعيتهم وتثقيفهم، وبالرغم من أنه كان عميق الثقافة، تقدمي الفكر، ثاقب الرؤية، فإنه كان يتوجه إلى القرّاء العاديين ويصوغ لهم أدقّ الفلسفات والمذاهب والأفكار في لغة بالغة السهولة بعيدة عن التعقيد والتكلّف، فوجدت كتاباته صدى معقولاً طيباً لدى الجماهير، وقلّما نجد من بين الأساتذة والنقّاد والمفكرين والمثقفين من أوتي هذه القدرة واحتل هذه المكانة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن