الأولى

سورية المُبادِرة .. ومبادرة دي ميستورا

بقلم رئيس التحرير :

منذ بداية الحرب على سورية، كانت دمشق أول من بادر ودعا إلى حوار بناء يمكن أن يجنب السوريين ويلات الحرب وتداعياتها، وطرحت حلولاً سياسية وقامت بحزمة من الإصلاحات وأصدرت عشرات القوانين وغيرت دستورها وأثبتت للعالم أن ما يجري في سورية ليس أزمة سياسية أو حرباً أهلية، كما يحلو للبعض تسميتها، بل حرب تستخدم فيها أبشع أساليب الإرهاب والترهيب هدفها الوحيد تدمير سورية وقتل شعبها وتهجيره بعد تجويعه وتشريده وفرض حصار خانق عليه، كل ذلك لأنه كان شعباً مقاوماً يدعم المقاومة ويرفض الاستسلام والتخاذل وتآمر العربان.
حذرت سورية في وقت مبكّر من الإرهاب وانتشاره في كل بقع العالم، وأشارت بالاسم إلى الدول المعادية التي غذت ولا تزال تغذي الإرهاب، وفي البداية سخر البعض من المصطلحات التي استخدمها الإعلام السوري لشرح ما يحصل، لكن اليوم باتت كل الدول تستخدم ذات المصطلحات التي تشير وبوضوح إلى التآمر وتمويل الإرهاب ودور الوهابية في تدمير الأوطان ونشر الإرهاب.
تحملت دمشق ما لا يمكن تحمله، وصمد السوريون في وجه أعنف حرب وأشرسها تشن ضد شعب بأكمله، وتجاوبت الدبلوماسية السورية مع كل المبادرات العربية والأممية التي من شأنها وقف الحرب وحقن الدماء، ولم ترفض أياً منها، بدءاً ببعثة مصطفى الدابي، إلى كوفي أنان ثم الأخضر الإبراهيمي واليوم ستيفان دي ميستورا وما تخلل هذه المبادرات من اجتماعات في موسكو وجنيف.
كانت رسالة دمشق للعالم: منفتحون على كل ما يمكن أن يوقف الحرب لكن ليس على حساب استقلالية قرار السوريين وسيادتهم الوطنية، وهي الرسالة التي دعمتها موسكو وطهران وبكين وحلفاء دمشق في دول البريكس، لأنها أبسط تعبير عن مبادئ الشرعية الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنع «دول الهيمنة» من إملاء شروطها على الحكومات والشعوب وتفكيك أنظمة وإعادة ترتيبها وفقاً لمصالحها.
اجتهدت دمشق على مدى أشهر طويلة لشرح موقفها ونشر رسالتها، وكسبت العديد من الجولات في أروقة الدبلوماسية العالمية، ولعل البيان الأخير لمجلس الأمن الذي نادى أولاً بضرورة مكافحة الإرهاب والشروع بحل سياسي بما يتوافق عليه السوريون، هو من المكاسب السورية التي مرت بصمت، إضافة إلى مكاسب أخرى مثل قرارات مجلس الأمن 2170 و2178 و2199 التي تلزم الدول بمكافحة الإرهاب ومنع تسلل الإرهابيين وتمويلهم، وهي قرارات بقيت بعيدة عن التداول رغم صدورها، لأنها لا تلبي مصالح دول الهيمنة لا بل تدينها.
اليوم نحن أمام مبادرة جديدة يطرحها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، مبادرة لم تبدِ دمشق حتى الآن موافقتها أو رفضها، بل تدرس كل تفاصيلها حرصاً منها على ألا تكون ملأى بالأفخاخ ومضيعة للوقت، ما يعني مزيداً من الدماء السورية.
كما ذكرنا سابقاً، ليس في وارد دمشق رفض المبادرة، لأنها لم يسبق ورفضت ما سبقها، لكن من واجبها التدقيق في تفاصيلها الغامضة أصلاً وغير المتلائمة مع الواقع السوري والإرهاب اليومي الذي يعيشه السوريون، قبل أن توافق عليها وتبعث بمرشحيها لحضور ورشات عمل «العصف الفكري» التي يقترحها دي ميستورا تمهيداً لانعقاد مؤتمر جنيف3.
اللافت في كل ما يطرحه دي ميستورا هو مساواة ملف الإرهاب وقتل السوريين وتدمير حضارات وثقافات، مع ملف إعادة الإعمار!! واللافت أيضاً أنه يريد استخلاص أفكار من «عصف فكري» لتضمينها في تقرير يرفع إلى مجلس الأمن، علماً أنه يتجاوز بذلك تطلعات السوريين وقرارهم لأنه يعتمد على شريحة محدودة من الأشخاص لا يمثلون مختلف أطياف الشعب السوري، ومنهم من يمثل دولاً معادية لسورية وممولة للإرهاب، ويريد دي ميستورا إشراكهم في حوار يقرر مستقبل دولة ساهموا هم في تدميرها وقتل شعبها.
كل هذه التفاصيل تضع الدبلوماسية السورية أمام امتحان صعب، فدي ميستورا ليس بشخص حر ونزيه، هو موظف في الأمم المتحدة وتم تعيينه بناء على رغبة الدول التي تهيمن وتسيطر على المنظمة الأممية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، وبكلمات أخرى فإن دي ميستورا يمثل مصالح تلك الدول ولا يمثل مصالح السوريين، وبناء عليه لا يمكن أن تثق دمشق بمبعوث أميركي الهوى، لكن بكل تأكيد يمكن أن تثق وتؤكد أنها لن تسمح بتمرير أي قرار أو «تسوية» لا تأخذ في عين الاعتبار قرار السوريين وإجماعهم عليه، مدعومة بموقفها هذا، من حلفائها الذين يدركون جيداً أطماع وأوهام الدول المعادية لسورية.
خلال الأيام القليلة المقبلة يصل دي ميستورا إلى دمشق لتقديم شرح مفصل عن مبادرته، ولضمان مشاركة دمشق في ورشات عمل مبادرته عليه أن يضمن أولاً أن الأولوية المطلقة هي لمكافحة الإرهاب وتطبيق قرارات مجلس الأمن، وثانياً ألا يستخلص ما يريده من عملية «العصف الفكري» ويتجاوز دستور الجمهورية العربية السورية ورغبة وقرار السوريين الذين وحدهم يقررون مصيرهم وبالاتفاق فيما بينهم وليس بإملاء خارجي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن