قضايا وآراء

طبول الحرب.. للمفاوضات ليس أكثر

| محمد نادر العمري

استبعاد سيناريو الحرب المباشرة لا يعني أن خطرها أو شبحها غادرا ساحات البؤر الإقليمية الملتهبة بالصراعات. فالحرب وفق كل المؤشرات مستبعدة لكنها ليست مستحيلة، بالقدر ذاته التهدئة ممكنة، لكنها لا تقف على أرض صلبة.
بين التصعيد والتهدئة غيوم لم تنجل بعد في ظل السلوك المتخبط للإدارة الأميركية تجاه الأزمات المعقدة، فواشنطن بضبابية تصريحاتها وسلوكياتها ومواقفها لم تنسحب من سورية رغم انقضاء مدة 4 أشهر، وهي الفترة التي وعد ترامب الانسحاب خلالها، والصراع مع إيران يصعب معه توقع مسار الحوادث المقبلة، لماذا وصل التصعيد العسكري إلى تخوم الحرب؟ وكيف جرت التهدئة بأسرع من أي توقع؟
هذان السؤالان ضروريان في التعاطي مع الأزمة الإيرانية على سبيل المثال لا الحصر، أي النظر إلى آفاق الأزمة وانعكاساتها المحتملة وتداعياتها وإلى أين قد تمضي، وهنا تصعب الإجابة بقدر الاضطراب الإستراتيجي الأميركي الذي يعكسه تناقض المواقف بين صقور الإدارة الأميركية ذاتهم، وهذا ما أوجد خطين أو مسارين إستراتيجيين متناقضين في إدارة هذه الأزمة.
– الخط الأول: السعي إلى خنق النظام الإيراني وإسقاطه من الداخل بتصعيد العقوبات الاقتصادية والمالية عليه والعمل على تصفير الصادرات البترولية، التي تمثل ما لا يقل عن 36 بالمئة من الدخل القومي، وبحسب تصريحات أميركية متواترة، فإن العقوبات تستهدف تغيير سلوك النظام لا إسقاطه، من دون أن يكون واضحاً أي فارق بين الاستهدافين، فكلاهما يفضي إلى تقويض الدور الإقليمي الإيراني ويغير من موقف إيران ويجردها من قدرتها الصاروخية.
مشكلة هذا الخط الإستراتيجي وفق منتقديه، أنه رغم ما يسببه من آلام فادحة للمواطن الإيراني ويشكل إجماعاً في اللجوء إليه من الحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي، إلا أن إيران اعتادت التكيف في مواجهة العقوبات وامتصاص مفاعيلها، وأن شيئاً من الصبر يساعد على التحمل حتى تنقضي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بكل جموحها الليكودي، بينما هذه الإدارة في عجلة من أمرها.
والخط الثاني: العمل العسكري المباشر لتحقيق الأهداف التي عجزت العقوبات عن الوصول إليها، العقبة الكبرى أمامه أنه لا يوجد تقبل لخيار الحرب في مجلسي الكونغرس الأميركي، ولا في وزارة الدفاع الأميركية – البنتاغون ولا الاستخبارات الأميركية، ولا الاتحاد الأوروبي، حيث جرت العادة بتوفير غطاء دولي ما لأي عمليات عسكرية واسعة في الشرق الأوسط، من الأمم المتحدة أو من حلفاء غربيين، بل إن الانقسامات ضربت الإدارة الأميركية نفسها، وانتقلت المواقف المتنافرة إلى منصات الصحافة والإعلام، حتى بدا مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون معزولاً، هذا فضلاً عن القدرات الردعية المتنامية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وانكشاف الوجود الأميركي أمام استهدافها وقدرة محور المقاومة على إوجاع واشنطن عبر تل أبيب.
فمع ارتفاع نبرة التصريحات السياسية والتهديدات المتبادلة، ومع وصول الاحتقان إلى ذروته، نعود ونسأل السؤال ذاته: هل تتجه منطقتنا نحو اندلاع حرب بين إيران ومحور المقاومة من جهة وأميركا وإسرائيل والسعودية من جهة أخرى؟ أم إن ما يجري تمهيد الأجواء والظروف للجلوس إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط الاشتباك؟
صحيح أن الضجيج قوي، والأصوات مرتفعة، والكلام المتبادل قاسٍ بين الأطراف ويأتي خارج الأدب الدبلوماسي في بعض الأحيان ويوحي ظاهره أن المعركة قاب قوسين أو أدنى، إلا أنه في المقابل لا توجد استعدادات جدية متبادلة على الأرض، وهناك معوقات كثيرة يمكن أن تمنع وقوع الحرب أو تؤجلها. فلو قرأنا بدقة مواقف الأطراف المعنية بهذه الحرب، وهي واشنطن وإسرائيل وحلفاؤهما، وروسيا والاتحاد الأوروبي، وإيران وسورية ومحور المقاومة، لوصلنا إلى نتيجة أن هناك عدة أسباب يؤكد كل واحد منها على حدة أن الحرب مستبعدة، وهذه الأسباب هي:
أولاً: أن الخطاب الأميركي لم يرد فيه ذكر للحرب، إلا على لسان جون بولتون الذي يحشر إدارته بما لا تسعى إليه، وانحصر باقي الكلام حول تصفير الصادرات النفطية الإيرانية عبر منع الدول التي كانت قد سمحت لها واشنطن مؤقتاً بالاستيراد من إيران، أما منع إيران بالقوة من تصدير نفطها، فلم ينطق به أي مسؤول أميركي حتى الآن، وما كلام دونالد ترامب الأخير الذي ألح على إجراء مفاوضات مع إيران إلا تأكيد لذلك، وتحرك حاملات الطائرات الأميركية وتوجهها نحو مياه الخليج لا يعني إعلان الحرب، بل فقط التهديد بالقوة لاستعراض العضلات لتحقيق إنجاز سياسي.
ثانياً: أن أي حرب تشنها واشنطن تحتاج إلى تهيئة داخلية، وهو أمر غير ملموس مطلقاً حتى الآن، ولا يوجد أجواء في البنتاغون أو الكونغرس فيها تحضيرات لحرب جدية، فضلاً عن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وأي خطوة تصعيدية لن تكون في مصلحة ترامب.
ثالثاً: مصلحة واشنطن ليست بشن حروب، ولا يوجد في خطط ترامب مشاريع حرب، وهو الذي كان واضحاً وصريحاً منذ حملته الانتخابية أنه لم يأتِ لشن حروب، بل لرفع مستوى الاقتصاد، ومن ثم فإن مصلحته في إبقاء الخلاف مستعراً في المنطقة بين إيران ودول الخليج لابتزازها وسحب أموالها، وهو لا يحتاج إليها من أجل أن يصرفها على حروبها، بل لتقوية الاقتصاد الأميركي، وهو الأمر الذي يمارسه ترامب علناً في طريقته بحلب السعودية وما أعلنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو منذ أيام عن صفقة بـ8 مليارات دولار مع دول الخليج تأتي في مضمون هذا التوجه.
رابعاً: تعلم واشنطن وإسرائيل وحلفاؤهما في المنطقة أن أي حرب جديدة ستعيد الروح إلى العلاقة بين الشعب العربي ومحور المقاومة، وبالتالي سيضرب مشروع التقسيم والفتنة الذي يعمل عليه محور الشر منذ عقدين والذي حقق نجاحات كبيرة لا يمكن أميركا وإسرائيل الاستغناء عنها.
خامساً: التموضع الروسي المستجد في المنطقة الذي حاكته موسكو بعناية لتثبيت دورها المحوري، مستندة إلى مشاركتها في القضاء على الإرهاب ومن خلال العلاقات المتشعبة التي نسجتها مع الأطراف المتناقضة، ولاسيما مع العدو الإسرائيلي والتي تخفي خلفها الكثير، لا مصلحة فيها لروسيا باندلاع حروب، بل بزيادة دورها في نزع فتائل التفجير في المنطقة.
سادساً: إن الجو العام الأوروبي والأممي بعيد كل البعد عن التسويق للحرب أو تأييدها، عدا الإنجرار إليها، وهو مناخ غير منسجم مع مواقف الإدارة الأميركية الحالية، لا بل أيضاً منزعج منها، وهو ما برز في قمة ميونخ الأخير للأمن «عندما وجه المجتمعون أصابع انجرار نحو حرب عالمية ثالثة لتهور الأميركي».
سابعاً: الوضع الداخلي الهش للكيان الإسرائيلي ورغبة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالحفاظ على منصبه من دون ضغوط داخلية جديدة، فهو ليس مضطراً إلى المغامرة بمستقبل إسرائيل من خلال شن حرب غير محسوبة النتائج، ولاسيما مع التجارب الفاشلة التي يخوضها مع غزة، فكيف سيخوضها مع حزب اللـه أو سورية أو إيران؟
ثامناً: وحدة محور المقاومة وتراكم قدراته العسكرية وتغير قواعد الاشتباك لمصلحته وتداخل جبهاته، هذا أمر مهم جداً بالنسبة إلى أي حرب يمكن أن يخوضها العدو، وهو لم يستطع حتى الآن تقسيم المحور للانفراد بأطرافه واحداً واحداً كما كان يفعل بعد حرب 73، وهي من أهم معوّقات شن الحرب.
هذه الأسباب تؤكد أن التهويل مجرد وسائل للحفاظ على حالة الفوضى والتوتر أو لتحسن تموضع والضغط للجلوس على طاولة المباحثات تريدها واشنطن بإصرار لإفراغ مضامين الانتصار العسكري لمحور المقاومة، ويرفضها هذا المحور تحت شروط أميركية بعد انتكاسة واشنطن وأدواتها عسكرياً، فإلى متى يستمر عض الأصابع؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن