قضايا وآراء

لكل «مكان» من اسمه نصيب

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن تقرر تقوية النار تحت «طبخة القرن» لا يكاد يمر يوم واحد دون أن يصدر عن الطباخين كلمة أو إشارة يراد منها الدلالة إما على شيء من قوامها أو مذاقها، أو مع ماذا يفضل أن تقدم أو كيف يستحسن عرضها على الموائد.
آخر هذه الدلالات كان في البيان الصادر عن البيت الأبيض تشاركياً مع دولة البحرين في التاسع عشر من أيار الجاري، وفيه جرى الكشف عن نية إطلاق «ورشة عمل» في المنامة يومي 25 و26 من حزيران المقبل، والغرض منها وفق البيان سابق الذكر هو المساعدة في مبادرة السلام الأميركية في الشرق الأوسط المسماة اصطلاحاً «صفقة القرن»، والمشاركون فيها وفق المصدر نفسه هم فعليات من المجتمع المدني ورجال أعمال ونخب مجتمعية متعددة المهام والأغراض.
في أعقاب صدور البيان أعلن وزير الخزانة الأميركي شارحاً أن الورشة ستركز اهتمامها على بناء مستقبل مزدهر للشعب الفلسطيني، وهي لن تكون معنية بالسياسة التي لطالما أعاقت على مدى عقود الوصول إلى السلام المنشود، بل ستنظر في الاقتصاد كوسيلة تقارب قادرة على أن تفعل ما عجزت عنه سراديب السياسة الجافة.
للكلام السابق تأثير فعل التعرية الذي تحدثه الرياح في جرد بدا لوهلة أنه محافظ على كثافة غطائه التي تمنح المكان رهبة أو تخوفاً لدى من يريدون الولوج إليه، فطبخة القرن تريد باختصار إلغاء السياسة بوصفها نتاج لحقائق التاريخ والجغرافيا عندما تكون نابعة من النموات الطبيعية لتلك البيئة، واعتماد بيئات أخرى تحدد قيمها عبر وهج الدولار والعملات الملحقة به كالدينار والريـال أو حتى الهللة.
في هذا السياق يبرز تساؤل مشروع هو لماذا اختيرت البحرين وعاصمتها المنامة لتكون محطة الانطلاق الأولى في هكذا مشروع مثير للدهشة ولربما غير قابل للتصديق، فمن كان يتوقع أن ينحدر أس الصراع الذي دارت حوله رحى حروب وانعقدت لأجله مئات المؤتمرات وجيرت لأجله إمكانات دول بحالها على مدى عقود إلى هذا الدرك الذي لا يمكن توصيفه إلا بأنه درك لا قرار له أو إنه اكتشاف جديد لأخفض نقطة في العالم لم تكن معروفة من ذي قبل.
للإجابة عن السؤال السابق قد لا تكون هناك معطيات شافية من شأنها تقديم تبريرات مقبولة، ولربما أقرب المعقول هو القول بأن لكل «مكان» من اسمه نصيب كما يقال، والمنامة كما تقول أشهر الروايات التي تبرر تسميتها بهذا الاسم أشبه بموئل للنوم والاستراحة على شاطئ ذي نسيم عليل، ولربما هذا هو ما يحتاجه اليوم أطراف الصراع وفق رؤيا «المصممين» بعدما تعبت ميادين الحروب وكلت ردهات السياسة ودروب التفاوض، ولذا من الأفضل البعد عن مطارح الذكريات سابقة الذكر كلها دفعة واحدة والذهاب إلى حيث دور الراحة ولربما سيكون مكانها المقترح هو في المدينة المائية بالمنامة المسماة جنة دلمون المفقودة.
في البرازيل راجت منذ منتصف القرن الماضي تجارة «البغاء» وقد جيرت لأجلها طاقات وإمكانات هائلة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، كانت هناك فرق الموت وأساطيل من سيارات الجيب التي يمتطيها رجال مقنعون مهمتهم مد دورها بالزخم اللازم لازدهار تلك التجارة، كانوا إذا ما جاؤوا بالصبي أو الفتاة المراد منه البغاء لا يحدثونه عن هذا الأخير بل لا يولونه أي اهتمام، وجل ما يفعلونه هو رميه في دار مهملة بجوار دار البغاء حيث الحفلات الأسطورية التي تبدي مظهراً خادعاً في كل شيء.
يوم يومان، شهر شهران ستبدأ الضحية بالتساؤل لماذا علي أنا وحدي أن أكون خارج هذه «الجنة» الأسطورية؟
يبدأ السقوط عندما يطرق السؤال السابق مدارات الخيال، ثم تمضي الضحية إلى مصيرها المحتوم.
مارس النموذج المجتمعي والثقافي الذي قدمته دول الخليج في العقود السابقة دوراً مرسوما بأدق تفاصيله شبيه بمثالنا السابق بدءاً من لفت الأنظار إلى أبراج تناطح السحاب ومروراً بوزارة السعادة ووزارة اللامستحيل، والإعلان عن الإقامة الذهبية، ثم وصولاً إلى بناء متاحف بتكاليف أسطورية تمتد على مساحات هائلة وجل ما تحويه مستحاثات بحرية جمعها صيادون، والمطلوب هو أن نسأل لماذا علينا وحدنا أن نكون خارج هذه «الجنات» الأسطورية؟ لماذا علينا وحدنا أن نرفع لواء شرف الأمة نحمل صليبها عن شعبنا كله؟
يبدأ السقوط أيضاً عندما تبدأ الأسئلة السابقة بالتوارد إلى الأذهان حتى إذا ما شكلت مناخا عاماً كان المضي أيضاً إلى المصير المحتوم.
المطلوب اليوم أن تختفي هذه التساؤلات من الذهنية الفلسطينية بالدرجة الأولى، وليكن القرار بأن الدور التي هم بجوارها الآن يرقبون ما يجري فيها هي دور غسان كنفاني وكمال عدوان ومحمود درويش وكمال ناصر، وليست دار عزمي بشارة أو من لف لفيفه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن