الأولى

حرب اقتصادية أم صراع نفوذ؟

| وضاح عبد ربه

نتابع يومياً على شاشات الأخبار مستجدات الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترامب على جمهورية الصين الشعبية، وتأثيرات هذه الحرب في الاقتصاد العالمي ومخاوف تباطؤ النمو وتراجع أسواق المال في مختلف عواصم الدول المتقدمة.
في الظاهر، يريد ترامب إقناع شعبه والعالم أن هذه الحرب أهدافها اقتصادية «لنصرة» المؤشرات الاقتصادية الأميركية التي باتت جميعها تشير إلى تفوق صيني واضح وخاصة الميزان التجاري، فيفرض رسوماً بمئات المليارات من الدولارات على البضائع المستوردة من الصين، مخالفاً بذلك اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، والاتفاقيات الثنائية الموقعة مع الصين ذاتها، وهذه ليست المرة الأولى التي ينسحب فيها ترامب من اتفاق دولي، فمنذ دخوله البيت الأبيض بدأ بإلغاء كل ما سبق لأسلافه أن وقعوا عليه، وطبعاً كل ذلك من باب عقدة «التفوق» الأميركي، حيث يريد ترامب فرضه على دول العالم.
في الظاهر هي حرب تجارية، لكن في الواقع هي «حرب علمية وتكنولوجية»، فأكثر ما تخشاه واشنطن الآن وفي المستقبل هو التفوق العلمي للصين، وتدرك الولايات المتحدة الأميركية أن بكين لم تعد دولة خاضعة لتقلبات المزاج الأميركي، ومقولة إن «الولايات المتحدة الأميركية تمتلك العقل والصين اليد العاملة» انتهت فعلياً مع وجود شركات صينية عملاقة مثل «هواوي» و«تنسنت» و«علي بابا» متفوقة على الشركات الأميركية مالياً وتقنياً، وفي المبيعات، إذ تشير الأرقام إلى ريادة المنتج الصيني وتجاوز مبيعاته كبرى الشركات الأميركية مثل «أبل» و«أمازون».
وما يبرر العقوبات التي تفرضها واشنطن على «هواوي» على سبيل المثال، أن الشركة بدأت بإدخال إنترنت الجيل الخامس على تجهيزاتها، على حين لن تتمكن الولايات المتحدة من تشغيل هذه التقنية قبل نهاية العام الحالي.
كما تطور الصين نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية الذي ستطرحه عام ٢٠٢٠، يتفوق على نظام «غوغل» المعمول فيه حالياً، إضافة إلى دخولها عالم صناعة الطائرات المدنية لتنافس بوينغ وإيرباص المحتكرتين للسوق العالمية، ما يجعلها عرضة لمزيد من العقوبات الأميركية التي من خلالها تريد واشنطن منع أي تفوق أو منافسة لشركاتها.
وللجم التقدم العلمي الصيني، والحد من نمو اقتصاد الصين، لجأ ترامب إلى سياسة فرض الرسوم على البضائع الصينية، ويحاول إقناع كبرى الشركات الأميركية بالهجرة من الصين إلى دول ثانية مثل فيتنام، بحيث لا تخضع منتجاتها المستوردة إلى السوق الأميركية لأي رسوم، لعلم ترامب ذاته أن الصين هي المصنع الأول لأغلبية المنتجات الأميركية ومنها على سبيل المثال لا الحصر هاتف «الآي فون» الذي يمثل فخر التكنولوجيا الأميركية.
هي ليست حرباً تجارية، هي حرب نفوذ وتفوق علمي وتقني، هي إرهاب اقتصادي تمارسه واشنطن على دول العالم لتحافظ على تفوقها في كل الميادين ولتحمي اقتصادها من أي تهديد صيني بات وشيكاً. ولذلك تستخدم الولايات المتحدة الأميركية سلاح العقوبات، وهو السلاح الذي باتت تحارب فيه كل من يعارضها، ونحن في سورية لنا تجارب طويلة في مقاومة هذا السلاح وكذلك روسيا وإيران والعديد من الدول التي ترفض الإملاءات الأميركية، وتتمسك باستقلالية قرارها.
طورت واشنطن سلاح العقوبات، بحيث لم يعد يستهدف دولة بذاتها، بل كل من يتعامل مع هذه الدولة، وهذا بحد ذاته مخالفة لكل الأعراف الاقتصادية الدولية، ولا يمكن وصفه إلا بالإرهاب الاقتصادي، الذي يعاقب كل من يخالف اللوائح التي تضعها وزارة الخزانة الأميركية وتصادر أمواله وفي بعض الحالات تلاحقه بتهم تصل عقوبتها إلى السجن!
الصين لم تعد اليوم دولة نامية، بل باتت دولة عملاقة ذات نفوذ عالمي، وتتحضر لإقامة أكبر مشروع سياسي في العالم، وهو مشروع «حزام واحد وطريق واحد» الذي ترى فيه واشنطن تهديداً لنفوذها العالمي، وتمدداً للنفوذ الصيني في مناطق ودول تصنّف مناطق نفوذ أميركية.
في سورية، ومنذ سنوات كان القرار التوجه شرقاً، أي إلى الصين والهند والدول المتطورة في آسيا، فكان الرد الأميركي بفرض عقوبات على كل من يتعامل مع سورية وخاصة تجاه حرية تنقل الأموال التي قيدتها واشنطن من خلال تحكمها بنظام «السويفت» العالمي (الحوالات المالية) الذي يمنع أي شركة أو شخص بتحويل دولار واحد من دون موافقة الولايات المتحدة الأميركية، والعقوبات شهدت في بعض الحالات إقفال مصارف كبرى أو فرض غرامات تصل إلى مليارات الدولارات لمجرد مخالفة تعليمات السيد الأميركي.
هذا الأمر لن يدوم، والدول العظمى مثل الصين وروسيا لا بد أن تنتفض في وجه الإرهاب الأميركي، ولا بد أن تجد الحلول لوقف هيمنة واشنطن على الأنظمة المالية العالمية، وتنشئ أنظمتها الخاصة التي لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية التحكم فيها.
الحرب القائمة حالياً ظاهرها تجاري، لكن في الواقع هي حرب نفوذ وتفوق علمي ومالي، ونحن في سورية لنا مصلحة كبرى في دعم ومساندة المشروع الصيني، وهذا ليس بجديد، فالسيد الرئيس بشار الأسد كان أول من أطلق رؤية «التوجه شرقاً» عام ٢٠٠٥، واليوم وبعد صمود وتضحيات السوريين في وجه إرهاب خليجي ودولي ممنهج، وفرض واشنطن حرب اقتصادية إرهابية على العالم، قد تكون الفرصة الأفضل للتشبيك مع التنين الصيني الذي يبني مبادراته السياسية والاقتصادية على أساس احترام القانون الدولي والشرعية الدولية والمصلحة المشتركة واحترام سيادة الدول.
كل ذلك إضافة لكونها مع روسيا والدول المستقلة في قرارها، وحدهم قادرون، على وضع حدّ للبلطجة الاقتصادية الأميركية التي لا بد أن تنتهي يوماً، وذلك نصرة لشعوب العالم وتضحياتهم وتطلعاتهم بحياة حرة ومستقلة لا تخضع لنفوذ أي دولة… فعصر القطب الواحد انتهى، وسينتهي – ولو بعد حين- عصر التفوق الاقتصادي والعلمي الأميركي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن