ثقافة وفن

رواية «ألٍف» لباولو كويللو … رحلة البحث عن الذات والوجود … توحيد الزمن في لحظات صوفية مشرقة نحو الحرية

محمد الحفري :

يسلك الروائي البرازيلي «باولو كويللو» في روايته «ألف» دروباً متشعبة وكثيرة في رحلته نحو الماضي ليمزجه بالحاضر والمستقبل ولعل الغوص في الماضي يستدعي القبض على اللحظة الفائتة وبعثها من جديد إذ يقول عن ذلك: أحاول أن أشق طريقي في تقليد روحاني تضرب جذوره في الأزمان الغابرة بعيداً عن اللحظة الحاضرة « يفعل ذلك باحثاً عن ألفه أو النقطة التي تلتقي فيها كل الأشياء في المكان والزمان واكتشاف ذاته، إذ يرى الكتابة بحد ذاتها تؤدي تلك الوظيفة وهو في رحلته كما يقول المترجم الأستاذ منير الرفاعي «الذي أحسبه قد أضاف ما هو جميل لهذا العمل يتقرب من الشرق بأديانه المتمثلة في اليهودية والمسيحية والإسلام» ولا يقتصر الأمر على ذلك فهو يتطرق للبوذية والهندوسية ومن ثم تفاصيل لها علاقة بالموروث والعادات والتقاليد، يستند إلى التصوف ويجعل من التقمص أهم الأعمدة التي يرتكز عليها، نلمح ذلك في جمل كثيرة من الرواية «أحيا مئات المرات، لبلوغ قمة الجبل، أتدرب على السحر، شجرة السنديان المقدسة، عندي يقين أن ثمة عالماً روحانياً موازياً على تواصل مع العالم الذي نحيا فيه، يبتهل (ج) ابتهالاً صوفياً» ومن خلالها نلاحظ هذا الدمج في مجموعة المورثات والثقافات الشرقية جاعلاَ من النصوص الدينية التي تحمل أوجهاً كثيرة للتفسير بوابات يعبر منها بسلام فمن القرآن مثلاً «كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاَ فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون(1) ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل اللـه أمواتاً بل أحياء ولكن لا تشعرون (2) وفي الإنجيل يشير يسوع إلى يوحنا المعمدان على أنه تجسيد إيليا: «وإن شئتم أن تصدقوا فإن «يوحنا» هذا هو إيليا الذي كان رجوعه منتظراً» وهو يستند إلى الأمثال في الشرق أيضاً «النور لا يقع إلا على الغريب» «لا كرامة لنبي في وطنه» وبطله أو قد نجزم بأنه الكاتب نفسه مقتنع بأبدية الزمن إذ يقول عن ذلك «أنا على قيد الحياة لم أولد قط ولن أموت أبداً، سرت في دروب كثيرة وأعلم كلها تؤدي إلى المكان نفسه» ومن ثم عبور يليه عبور ما دمنا نستمر في التلاقي والوداع، رحيل يليه عودة وعودة تليها رحيل وهو يستخدم تفاصيل شرقية مدهشة ويوغل بعيداً نحو الماضي مصطحباً معه «هلال» بطلته الرئيسية في الرواية فقد كانت عازفة الكمان الماهرة يوماً ضحية من ضحايا التطهير الذي مارسته الكنيسة في حقب سابقة، وكان هو آنذاك من الذين يقومون بذاك الفعل لتخليص البشرية من الزنادقة والكفرة كما كانوا يعتقدون حيث يتكئ هنا على التاريخ ووثائقه والأمر البابوي الذي أصدر بهذا الشأن والذي يسمح صراحة لمحاكم التفتيش باستخدام أساليب التعذيب لانتزاع اعترافات من خرجوا عن الطريق السوي، وفي هذا السياق تأتي قصص أخرى داعمة لمسيرته السردية أثناء رحلته العجيبة تلك قاطعاً مساحات شاسعة من روسيا كالجريمة التي تعرض لها القيصر وعائلته ومن ثم حكاية «ياو» الذي افترق عن زوجته في زمن مضى ومعلمه «ج» الذي يعتبر مرشداً روحياً يستدل به البطل للوصول إلى غايته، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن «ج وياو» كانا جناحين حلق بهما الروائي عالياً مع بطلته «هلال» في سفره معها عبر القطار الذي يعتبر برأيه رحلة الحياة التي نعيشها وليست المحطة أو المحطات التي نتوقف فيها سوى استراحات قصيرة لنتابع بعدها المسير، إذ تصبح الحياة مجرد سفر في الزمن رجوعاً مادام السفر لا يرتبط بالمال بل بالشجاعة للحصول على دروس عظيمة يتعلمها المرء في تلك الرحلات وما تفعله في الحاضر سيحدد الماضي ولعل المعلم «ج» كان من الناصحين للقيام بتلك الرحلة «عليك الرحيل كي ترجع إلى الحاضر». وفي مكان آخر يقول: «عندما مررت بما تجده أنت الآن وجدت الإجابة في أمر كان قد حدث قبل أن أولد»، فالمشكلات حسب رأيه حدثت فيما نسميه الماضي وتنتظر قراراً فيما نسميه المستقبل، وهنا يحق لنا أن نسأل هل نحن في الماضي أم نعيش الحاضر وهل نستطيع أن نعبر الزمن حقيقة حتى لو كنا في مركبة تسابق الضوء والصوت؟ أسئلة ربما تكون مادية وحسية إلى حد ما وقد لا تأبه لها الرواية كثيراً، فمؤلفها قد وحد الزمن في لحظات صوفية مشرقة «كنا غيمتين والآن نحن واحدة، كنا قطعتي ثلج أذابتهما الشمس والآن نحن الماء» ثم يستشهد على ذلك ويدعمه في مواضع عديدة من النص «تحدث مثل هذه الأمور فقط عندما يكون كل الأشخاص قد التقوا في مكان ما من الماضي ويجوبون معاً الآفاق نحو الحرية… أعلم إلى أين يفضي هذا الباب، لقد عبرته أربع مرات من قبل ولم أجد الجواب» وهذا الجواب ليس غاية بحد ذاته إنما الغفران الذي يسعى له البشر هو الأهم لأننا دائماً بحاجة لمن يتجاوز زلاتنا ويغفر أخطاءنا فقد وقعنا في الخطأ يوماً وقد نقع فيه مستقبلاً والكمال غاية يصعب تحقيقها، ولا شيء يعادل الغفران لأنه يعيد بياضنا وتأهيلنا من جديد على دروب الحياة «اغفري لي ولكن من أعماق روحك، الروح ذاتها التي تعبر من جسد إلى آخر وتكتسب معرفة في ارتحالها في الزمن اللاموجود والفضاء اللامحدود» ويستحيل أن يتحقق ذاك الغفران المنشود والمأمول بغير حب ينطلق من قلوب تصفح وتسامح من ظلمها وحين تعطي «هلال» كلمتها يتم ذلك «أغفر لك لأنني أحبك ولأنك لا تحبني» وتلك مسيرة يستنفر الروائي قوته لأجلها ويحشد لها طاقات كبيرة ليصل إلى هدفه المرتجى، فطقوسنا حتى لو كانت عبثية لا بد أن تلامس أرواحنا وتمس أوتارها أو تحرك شيئاً راكداً في قاعها على الأقل، والبشر لابد يستشعرون الطاقة الإلهية التي تشعل فينا روح الحياة «نحن جميعاً أرواح تطوف في الكون وفي الوقت ذاته نحيا حياتنا، لكننا نشعر بأننا نعبر من قميص إلى آخر». ومما لا شك فيه بأن هذا التمازج ومن بعده التماهي بين الحاضر والماضي ومن ثم المستقبل هو أسلوب يعتمده الروائي في أكثر من عمل فكما وجد «هلال» التركية التي كانت ضحيته يوماً على الرغم من المحبة التي كانت تجمعهما وجد «فاطمة» العربية في روايته «الخيميائي» التي شعر بأنه يعرفها ويحبها منذ أزمنة غابرة، وحين عثر الراعي على كنزه في الرواية ذاتها وجده في الكنيسة المهجورة والمهدمة التي كان يبيت مع أغنامه فيها، لكنه قبل ذلك قطع رحلة طويلة عبر الصحراء كاد يهلك فيها أكثر من مرة ونجده في النهاية يعود إلى «فاطمة» ولعل رحلته عبر الصحراء تقابل رحلته عبر الأراضي الروسية لكنه في رواية الألف يعثر على كنزه الأثمن ألا وهو الغفران منطلقاً من قلب «هلال» التي عثر عليها بعد مرور الزمن وتباعد حقبه وربما هذا تقابل آخر للزمن على ضفتي النهر في الروايتين المذكورتين، وبطبيعة الحال يبرر المؤلف ذلك بقوله بأن كل من كانت لنا معهم مشكلات في الماضي يعاودون الظهور في حيواتنا، فيما يدعوه الصوفيون عجلة الزمن وأعتقد بأن «باولو كويللو» في لعبة التماهي مع الزمن قد مد جسوراً طويلة بينه وبين الناس وحفر عميقاً نحو الذات حيث الحقيقة تنطوي في هذا الكائن الأسطوري الذي يسمونه الإنسان، وهذا الكلام بطبيعة الحال ينطبق إلى حد كبير لو نظرنا عبر مسارب الروح وبعاطفية متسامحة ترسم الحب طريقاً يصل إلى الغفران الذي ننشد لاستقرار عالم مضطرب تتصارع فيه القوى لقتل السلام والاستقرار والهدوء أملاً في الحب الذي يقول عنه المؤلف بأنه ينتصر دوماً وقهراً لحزننا على الأحباء الذين يرحلون في كل الأوقات فما من داع لذلك «لأنهم سيظلون أحباءنا وسيظلون بقربنا» والقارب الذي تحدث عنه ليس بقارب نتخيله يقطع بحيرة صغيرة بمجداف خشبي وحسب، إنما هو الابتعاد عن السطحية والغوص إلى الأعماق والتسلح بالفكر والوعي «وأن تصبح أنت القارب».

1ـ «البقرة ـ 28»
2ـ «البقرة ـ 154»

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن