ثقافة وفن

«مسافة أمان» صخرة صلبة يبنى عليها معمل لصناعة الدراما … محوران دراميان منفصلان شكلا العمل الفني

| أحمد محمد السح

يبدو واضحاً لمتابعي المسلسل السوري مسافة أمان «نص إيمان السعيد، إخراج الليث حجو»، أن العمل من الأعمال الهادئة التي تخفض من مستوى العنف في المشاهد المعروضة سوى في مشهد أو مشهدين استخدما لشدّ المشاهد في بداية العرض، مثل حادثة الخطف والقتل لزوج بطلة العمل سلام «سلافة معمار» أو حادثة القتل لشخصية الدافع لاختيارات الشخصيات أبو غسان «نزار أبو حجر»، لكنه مع كل هذا يعتبر من الأعمال التي تشير إلى العنف القابع في المجتمع، من دون أن تكرّسه وهذه نقطة تُحسب لمصلحة صنّاع العمل، في زمن بات فيه الاسترخاص في عرض الدم والقتل (الوسيلة الأنجع) لتحرير غرائز الجذب عبر العنف عند الناس ببساطة.

يعرض العمل محورين يكادان يكونان منفصلين، هما محور سلام الطبيبة التي يتعرض زوجها للخطف وتبدأ الأحداث في رحلة كشف خفايا طويلة حول هذا الزوج المغدور، والمحور الثاني هو محور الخيانة تقوده «نهاد – الممثلة ندين تحسين بك، وسراب – الممثلة كاريس بشار»، لكن المشكلة أن هذين المحورين منفصلان تقريباً عن بعضهما سوى في الربط الجغرافي – العاصمة دمشق والربط الزمني – العام الحالي أو الفائت أي أواخر الحرب على سوريا، ولكل محور بطولاته وحركته ومسار أحداثه حتى يمكن أن تكتشف أن لا علاقة بين هذين المحورين سوى في شخصيتي «المحامي غيث – الممثل وائل أبو غزالة» الذي يظهر ليذكر المشاهدين بأن العمل واحد ومترابط. هذه الإشارة التي يبدو أنها غابت عن ذهن الكاتبة إيمان السعيد صاحبة الربط المحكم في كتابة السيناريو، وهو ما برعت به قبل عشر سنوات في المسلسل المبهر «سحابة صيف – إخراج مروان بركات»، ومع أن المعالجة الإنسانية والعملية لروح الشخصيات وسلوكها كان مختلفاً في التعاطي، فقد استخدمت المشاهد القاسية مثلاً للدفع في الأحداث أو الاشتغال على تلويناتها وللتخلص من شخصية أو توريط شخصيات أخرى في أفعال قد تبدو خارج سياقاتها وهذا شائع في كتابة السيناريو وإن كان قليلاً في الحياة بشكل عام، مهما بلغت نسبة العنف في أي مجتمع يعيش حياة طبيعية. تبدو الأحداث التي تمر بها البلاد خلفية للأحداث وليست جزءاً أساساً فيها، على اعتبار أن الذروات الدرامية تنبع من الأبعاد النفسية للشخصيات وليس الفعل الدرامي المباشر، مستغلة الدفع المبطن والقطبة المخفية في سرد الحكاية أكثر من الإيضاح والأكشن. فالعمل لا يورط الشخصية في حدث ليرينا رد فعلها فقط إنما يظهر لنا حدثاً درامياً للشخصية ويحاول العودة معنا لتفسير هذا الفعل من خلفيات الأحداث التي مرت بها الشخصية ولم نكن نعرفها، فتقارب «مروان – الممثل إيهاب شعبان» من الدكتورة سلام تمّ إيضاحه في حوار صارخ وصادق في نهاية العمل، أي إن التشويق يكون تحت الأحداث التي تبنى عليها القصة ككل وليس في النتائج للأحداث التي يتم عرضها على الشاشة فيوقع المشاهد في تشويق للخيارات التي ستختارها الشخصيات لاستكمال الحكاية.
يظهر الممثلون في هذا العمل بصورة مبهرة تستحق الوقوف عندها والانبهار ليس في مستوى الأداء فحسب بل في تصميم الماكياج الذي قدمته مصممة المكياج المثقفة والمحترفة ردينا ثابت سويداني التي لم تترك فرصة ليؤخذ عليها ملاحظة واحدة أبداً، حتى إن أحد المقاطع التي عرضتها الممثلة السورية سلافة معمار على حسابها على إنستغرام تظهر ردينة وهي تنر إلى مكياج خياطة الجرح في عمل جراحي مفترض بحضور مختص طبي، إذاً فالمكياج بلغته الاحترافية لفنانة مثقفة كردينة لا يكون عبر مكياج تجميلي لوجوه الممثلات والممثلين في كل وقت بمناسبة ومن دون مناسبة إنما في عملية مكياج متناسب مع الحالة والصورة للشخصية التي تظهر في المشهد، فالممثل المرعوب غير الشخص الذي يتحضر لعرسه مع أنه في الحياة هو الشخص ذاته إنما اختلفت الحالة، ولنعترف من دون أي إبطاء بأننا أمام فنانة احترافية يجب أن تكون معارفها منهلاً لكل عشاق هذا الفن المرتبط أصولاً بالثقافة.
تختبر عدسة المخرج المجتهد الليث حجو تفاصيل المكان لتكون الزوايا المنتقاة لعرض المشاهد مدروسة بلغة بصرية قادرة على إحداث انطباع نفسي ومفاهيمي في عقل المشاهد من دون أن يكون اختصاصياً في عملية الإخراج ومن دون أن يقع المخرج في فخ الفوقية أو الاستعلاء على المشاهد بأخذه إلى أماكن مغرقة في الأكاديمية في الدراسة الإخراجية وهو ما تقع به السينما السورية عادة، ولكن الليث المشهود له بالنجاح قادر على أن يكون مثقفاً وأكاديمياً وبسيطاً في آن واحد وهي الخلطة السحرية للنجاح، وإن برزت بعض الأخطاء التي تسمى أخطاء الراكور مثل العرض التوضيحي الذي استخدم لمحادثات الواتساب أظهر ساعات زمنية مختلفة عن زمن حدوث المشهد، فقد اتضح ذلك أثناء إعداد «نور – حلا رجب» للفطور بينما كانت لقطة الشاشة تشير إلى ما بعد الخامسة وبالتالي فالوقت عصراً؛ أو في خطأ تزميني آخر للزيارة التي أظهرت مشهداً احترافياً وحواراً مسبوكاً بين شخصيتي سراب ونهاد إلا أن هذا الحدث/ الزيارة اتفق على إجرائه في السابعة بينما سبقه موت شخصية الشرطي الطيب سعيد «الممثل وائل زيدان» ودفنه لا بل وتعمير شاهدة قبر قديمة له بينما موعد الزيارة لم يتأخر، هذه الأخطاء في التقطيع قد لا تحمّل للمخرج وحده إنما يجب تحميلها لفريق العمل ككل للوصول إلى صيغة لا تُخرِج المشاهِد من متعته مع حدوث خلل بسيط كهذا.
يصعب على أي شخص أن يقدّم رؤية في عمل تلفزيوني أن يختصر جهود أشهر لآلاف الأشخاص في بضعة أسطر وهذا في الحقيقة يجعل الناقد شمولياً ووثاباً كالجندب، فالأعمال الفنية تحتاج للوقوف مع كل تفصيل لهذه الأعمال لأن الدراما صناعة يبرز منها الممثلون لأن هناك جهوداً جبارة تظهر لنا هذا الأداء الاحترافي للممثلين كما ظهروا في مسافة أمان نجوماً متألقين وموهوبين لا يمكن أن تترك ملاحظة تشوب نقاء أدائهم، وكان الإبهار مع الوجوه الشابة لأن المحترفين محترفون أساساً لكن الوجوه الشابة ستقف وقفات طويلة مع هذه المحطة في مسيرتها المرتقبة، لأنها عملت تحت إدارة مخرج مجتهد هو الليث حجو ونص كاتبة محترفة هي إيمان السعيد لشركة إيمار الشام التي تديرها اليوم سيدة سورية ناجحة بامتياز هي السيدة ديانا جبور، فنحن إذاً أمام عمل يبنى عليه كحجر متين في استمرار صناعة الدراما في البلاد وخارجها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن