ثقافة وفن

المدن المنسية من أغنى مناطق سورية بالآثار … ستبقى المدن المنسية في الشمال السوري مدناً متألقة يضوع منها عبق التاريخ

| المهندس علي المبيض

تعتبر سورية متحفاً للتراث الثقافي من أقصاها إلى أقصاها إذ تعد من الدول المتميزة بغنى موروثها الثقافي الذي يمثل إرثاً إنسانياً عظيماً يعكس نتاج الحضارات العديدة والمتنوعة التي تعاقبت عليها سواءً تعلق الأمر بالعمارة القديمة أم بعمارة الحقب التاريخية المتلاحقة.
وتزداد أهمية هذا الموروث الثقافي لكونه يعتبر مكوناً رئيسياً للهوية الثقافية والحضارية للسوريين وجزءاً رئيسياً من المخزون الثقافي والذاكرة الجمعية للسوريين ومن هنا يجب أن ندرك أهمية المحافظة عليه واستثماره بالطريقة المثلى بالاستفادة من تجارب الدول التي لها خبرة جيدة في هذا المجال وتعد السياحة الثقافية في مقدمة هذا الاستثمار.

إن دراسة الأحداث التي وقعت في تاريخ أي شعب توفر له الوعي بشكل كبير وتساعده في بناء فهم أفضل لسبب تصرف بعض الشعوب بالطريقة التي يتصرفون بها وتجنب المرء وكذلك الشعوب المزالق الكثيرة التي تمر بها وفي سياق استعراضنا للمدن المنسية الواقعة في الشمال السوري فإننا نؤكد أن هذه المدن تعتبر نقطة جذب سياحي مهمة جداً وتمتلك العديد من المقومات السياحية والثقافية من خلال مواقعها الأثرية والسياحية الكثيرة والمتعددة، ولعل أهم ما يميز هذه المنطقة هو تنوع مناخها وجغرافيتها فهي تضم الجبال والسهول كما تضم بين قراها العديد من المواقع الأثرية وتتميز بطبيعة جميلة وهواء عليل حيث تكسو الجبال الأشجار الدائمة الخضرة من الزيتون والسرو والصنوبر والسنديان وهذا يؤكد ضرورة استثمار هذه المنطقة بإقامة المشاريع التنموية التي تسهم برفع السوية الاقتصادية والاجتماعية والثقافي لأبناء تلك المناطق.
وكنا قد تحدثنا في المقال السابق عن قلعة سمعان العمودي التي تقع في إحدى قرى جبل سمعان شمال غرب حلب وتشكل حالةً فريدةً قل أن تجد نظيراً لها في مناطق أخرى من العالم، وما دمنا في جبل سمعان فلابد أن نتحدث عن القرى المنسية الواقعة فيه والتي تعكس عمقاً ثقافياً وفكرياً عميقاً متجذراً بالتاريخ السوري العريق من خلال الخبرات التراكمية الكبيرة التي نتجت عن الحضارات العديدة التي تعاقبت على أرض سورية الطاهرة إذ يحتضن جبل سمعان مدناً منسيةً عدةً منها براد وقصر براد وبرج حيدر ودارة عزة وباسوفان وخراب شمس إضافة إلى قلاع وخرائب بيزنطية أثرية تحيط بقلعة سمعان مثل تقلة ورفادة والقاطورة وست الروم، ونتابع في مقالتنا اليوم ما بدأناه من رحلة في ذاكرة الحجر وما أبدعته يد السوريين من معالم تاريخية وقلاع وحصون وأبراج خلال الفترات الزمنية الطويلة وعلى امتداد الجغرافية السورية.
قرية خراب شمس: تقع على المنحدرات الجنوبية لجبل سمعان وتضم كنائس وسراديب ومعصرة ومدافن وحصوناً أما قلعة نجم التي تعود إلى القرنين الثامن والتاسع الميلادي فهي قلعة عربية مهمة في منطقة منبج على بعد110 كم شرقي حلب، وهي مؤلفة من ثلاث طبقات الأولى تحتوي على مستودعات وصهاريج وأبراج دفاعية وممرات سرية تليها الطبقة الثانية وتضم قصر الإمارة والحمام والقاعات العديدة، أما الطبقة الثالثة فتقع فوق الأرض وتضم مسجد القلعة وبعض الأبنية والمرافق المختلفة، يعود تاريخ بناء القصر والمسجد إلى الفترة الأيوبية أي في القرن الثاني عشر الميلادي وبغية زيادة منعة القلعة وتحصينها فقد تم حفر خندق يحيط بها وقد اتخذ هولاكو هذه القلعة مركزاً لقيادته قبل غزوه لمدينة حلب.
مدينة كيمار: تقع في منطقة عفرين بلدية الباسوطة شمال قرية سمعان وهي من أهم المدن الأثرية في الحقبة الرومانية البيزنطية ويعود تاريخها إلى القرن الخامس والسادس الميلاديين وفيها دور سكن وكنائس وخزانات محفورة بالصخر لجمع مياه الأمطار وتتميز بهوائها العليل ما يجعلها مركز اصطياف مميز.
وأما جبل باريشا أو بريشيا أو برايشا والواقع غرب إدلب فيحتوي على مزارع أثرية في منطقة حارم مثل دير سيتا وهي مزرعة تقع في جبل باريشا، وبامقا وهي أيضاً موقع أثري تعود آثاره إلى الفترة الزمنية الوقعة بين القرن الأول والسادس الميلاديين وأهمها دار كبيرة من القرن الأول الميلادي تتميز بطراز معماري جميل تزينها زخارف وزركشات في الواجهات والنوافذ وفيها معصرة زيتون تستند على دعائم حجرية كما يضم الموقع تجمعاً سكنياً مكوناً من عدة أبنية يعود تاريخ بنائها إلى القرنين الثالث والرابع الميلادي وكنائس تعود إلى القرن السادس الميلادي كما يضم قلاعاً وخرائب بيزنطية ترجع إلى القرنين الخامس والسادس الميلاديين ومعظم عماراتها هي دور للعبادة وأخرى للسكن، كما يضم جبل باريشا بقايا آثار داحس وتعتبر مركزاً تجارياً بقيت القرية مسكونة حتى القرن العاشر الميلادي وتعتبر إحدى أكبر قرى هذه المنطقة وشهدت نشاطاً تجارياً واسعاً ونهضة عمرانية متطورة تمثلت ببعض مظاهر التنظيم العمراني وتميزت بأبنيتها الجميلة وضمت سوقاً تجارياً ذا أروقة يتكون من محلات وصالات وساحة وقد ازدهرت التجارة في القرية واتصف أهلها بالثراء وتوفر السيولة المالية وأدى ذلك إلى العناية بتحسين وتجميل الأبنية والاهتمام بتزيينها بالنقوش والزخارف حيث تطورت فيها أشكال الزخارف النباتية وطبعت بطابعها الخاص الذي بقي سائداً في العمارة السورية لأكثر من مئتي عام، وهذا التنوع والغنى في الزخارف يشير بصورة واضحة إلى ازدهار المنطقة والسوية الثقافية والفنية المتقدمة لأبناء المنطقة والتي ساهمت بشكل أو بآخر بتعزيز الوحدة الثقافية المنفتحة على الخصائص المحلية والخارجية.
ومن مدن إدلب المنسية ترمانين والدانا وسرمدا وتل عقبرين والأتارب وتلعادة وهي مازالت مأهولة وتضم معاصر زيتون قديمة وكنائس تاريخية بيزنطية وتنتشر فيها مغاور كثيرة كما في قرية المغارة في جبل الزاوية حيث انتشر في العهد البيزنطي استخدام المغر.
قرية كنصفرة: وهي بلدة قديمة يعود تاريخها إلى ما قبل الفترة الرومانية واسمها مشتق من اللغة السريانية ومكون من شقين كن + صفرة والكن هو الهضبة أو المرتفع من الأرض والصفرة هي العنب أو الخمرة وهذا يدل على انتشار زراعة العنب وكثرة الخمارات فيها والتي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم.
قرية أبلين: تقع القرية في منطقة حارم وتتبع إدارياً لناحية احسم وتبعد عنها 5 كم وتحيط بها المرتفعات الجبلية وسط طبيعة جميلة جداً وتشتهر القرية بزراعة الزيتون والكرز والعنب وتفوح منها رائحة الحضارة والتاريخ وتختلط فيها الآثار مع أشجار الزيتون والكرز.
قرية ترمانين: تقع القرية على مسافة 33 كم غرب مدينة حلب بالقرب من الطريق الروماني القديم الذي كان يصل بين انطاكية وحلب وترتفع نحو 430 م عن سطح البحر يعود أصل تسمية القرية إلى اللغة الآرامية وأصلها كفر ترمانين ومعناها مزرعة الرمان وهذا يدل على شهرة القرية بزراعة الرمان، وتضم قرية ترمانين العديد من الآثار التي تعود للعصور اليونانية والرومانية وتدل بعض اللقى الأثرية التي تم العثور عليها أن القرية كانت تضج بالحياة عام 592 م ويرجح بعض الباحثين أن تاريخها يعود إلى عام 480 م وهو تاريخ إنشاء دير ترمانين ويعود إلى العهد البيزنطي وهو عبارة عن بناء مكون من طابقين وأمامه ساحة مبلطة بالحجارة وحوضان للماء محفوران في الصخر ويعتقد أن الدير بني في البداية لخدمة المسافرين نظراً لوقوعه على طريق تجارية رئيسية وقد لعب دير ترمانين دوراً مهماً في تطور فن بناء الكنائس في ذلك العصر وغدا نموذجاً معمارياً فريداً يتم تدريسه إلى اليوم الحاضر.
قرية المغارة: تقع هذه القرية في جبل الزاوية تبعد عن مدينة إدلب 27 كم وتضم العديد من المدافن الأثرية القديمة أهمها المدفن الروماني الذي يعود لعام 246 م ومدفن آخر يعود للقرن الأول الميلادي وهما فريدان من نوعهما في شمال سورية.
سرقانيا: قرية أثرية واسعة الأرجاء من قرى جبل سمعان وتبعد مسافة 6.5 كم عن بلدة دار عزة من الجهة الشمالية الشرقية ويتم الوصول إليها من عدة طرق ومحاور أهمها طريق حلب الجديدة – دارة عزة – قلعة سمعان- قرية برجكة الأثرية – سرقانيا.
وسرقانيا باللغة السريانية تعني أمير القصب أو الأراضي وتقع سرقانيا وسط خرائب تضم مجموعة من الآثار الجميلة ومن ضمنها أبنية تاريخية مازالت أوضاعها جيدة حتى اليوم، تضم القرية أطلالاً معمودية صغيرة وبقايا بعض الكنائس القديمة التي يعود تاريخها للقرن السادس الميلادي وعلى الرغم من أن معظمها قد تهدم إلا أنه مازلنا نلاحظ وجود تزيينات جميلةً ونقوشاً ناعمةً على محيط النوافذ وعند مسندي الهيكل الشاقوليين.
وبالنتيجة وبعد أن استعرضنا لمحةً موجزةً عن المدن المنسية في المقالات الست السابقة ولاحظنا غزارة المواقع الأثرية في تلك المنطقة وتنوع تلك الآثار وفرادتها على مستوى العالم وتبين لنا أنها تزخر بأطلال عشرات القرى والمدن والمساكن الريفية التاريخية الجميلة، أفلا يدعونا ذلك لإدراك ضرورة استثمار السياحة الثقافية كمحرك يحقق التنمية الإقليمية المتوازنة والمستدامة التي تسهم في النهوض بالمستوى المعيشي لتلك المناطق التي تمتلك المقومات والموارد السياحية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن