ثقافة وفن

ترجمان الأشواق ودمشق المنكوبة أمام الكاميرا … شخصيات استطاعت تجسيد الوجع السوري بصوفية تبدأ من العنوان وتنتهي بالتفاصيل

| ثناء خضر السالم

سأفترض وفق متابعتي لهذا المسلسل العميق أنه أخذ اسمه من عنوان كتاب لابن عربي يدل على حب يفيض به النص، حب يلمّ الجميع تحت سقف واحد هو دمشق.
دمشق المنكوبة بالإرهاب تختال عبر الكاميرا-وقد صوّرت من علو- بأبهى حلّة، تزدان بيوتها بالكنبات المشغولة على طريقة (الدامسكو)، كيف لا وهي أصل العراقة. هذه الكاميرا التي رصدت المقبرة والأمكنة المتضررة، رصدتها برؤية بصرية عالية لم تنفّرنا من الدمار بل جعلتنا نتوجع ممّا حصل.
يتمحور الحدث حول ثلاث شخصيات جمعهم الاتجاه اليساري، وتفرقت بهم السبل فأحدهم سافر وهو سجين سابق والآخر نحا منحى صوفيّا والثالث بقي على مبادئه وزاد عليها العبثية التي وسمت شخصيته في جزء ليس بيسير من المسلسل.
نقف في هذا المسلسل أمام نص جميل وإخراج جميل وأداء مميّز للجميع من أصغر دور إلى أكبر دور، حتى الطفل ذو السنتين ينادي تحسين بابا وكأنّه أبوه حقّاً.

شخصيات العمل

الدكتور زهير (طبيب الجراحة العصبية) – غسان مسعود- الذي ترك الاتجاه اليساري وأخذت حياته منحى صوفيّاً، فتقوم حياته على حب الناس من دون انتظار محبتهم، سنجد طقوس الصوفية تُعرض لأوّل مرة في الدراما السورية، وسنقف أمام ضريح محيي الدين ابن عربي، وسيردّد الدكتور زهير بعض مقولات الصوفية التي تصلح للنّاس جميعهم وليس للمتصوفة فقط مثل (كل نهاية لا يصحبها حال البداية لا يُعوّل عليها). (النّاس نيام إذا ماتوا انتبهوا).
الهدوء في شخصية الدكتور زهير يبعث الطمأنينة والسكينة في النفس وقد ورد على لسانه مقولة أحببتها كثيراً (أصحاب القلوب الكبيرة يموتون بحزن صغير). أخلص الدكتور زهير لزوجته المتوفّاة وعاش وحيداً فابنه وابنته بعيدان يكملان دراستهما، وعاش وحيداً مع التصوف ومهنة الطب والمصالحات التي أرهقت تجار الحرب، فنجح في نزع السلاح من يد بعض الجماعات وإعادتهم إلى حياتهم السابقة، كما نجح في الإفراج عن بعض المخطوفين والمخطوفات. (ففي الحرب يصبح الخطف أمراً عاديّاً ومألوفاً عند الناس، وكأنّ القصة قصة رجل كُسِرت، هذا ما ورد على لسان إحدى الشخصيّات.
يقدّم الدكتور زهير في هذا العمل أنموذجاً للوعي والفهم والتمسّك بالوطن الذي هو أغلى من أي انتماء آخر، إنه الانتماء الحقيقي في حياتنا. موت الدكتور زهير مترقّب ومنتظر، فتجار الحرب أطراف متعددة يقتلون من يعمل لأجل السلام.
وننتقل إلى نجيب(عباس النوري) الترجمان المغترب والسجين السابق، الذي سار في الاتجاه اليساري، هاجر من البلد بطريقة غير شرعية تاركاً زوجته وابنته.
تستيقظ الأبوة في نجيب عقب اختطاف ابنته، فيقرر العودة إلى البلد للبحث عنها، نجيب لم يعرف الخوف طريقاً إليه إلا وقت سماعه باختطاف ابنته، وكأنّنا لا نعرف قيمة الأشياء إلا بعد ضياعها. ففي لحظة تتجلى فيها ابنته تخبره بأنّه أضاع عشرين عاماً من عمره في الغربة وضيّعها أيضاً. يلاحق المترجم تفاصيل ابنته من خلال النظر في مذكّراتها، وكأنّه يتعرّف عليها بشكل حقيقي بعيداً عن الأبوّة الافتراضية عبر المسنجر. نلاحظ أن نجيب يبحث في ابنته عن حياة ضاعت ووطن غارق في حرب ضروس.
تصلنا في مكالمة لنجيب مع فريدة (المرأة التي تشاركه البيت) أفكاراً مهمة تتعلق بأن التهديد الحقيقي للأنظمة بات ناتجاً عن فئتين: الطلاب والأقلّيّات، فيما يخص الطلاب ابتكرت الأنظمة لنفسها ثورات تحت الطلب والثورة الفرنسية مثال على ذلك. أمّا الأقلّيّات ابتكرت الأنظمة حلولاً لتمرّدها منها الاهتمام السينمائي المدهش بإبهاره، مثل فيلم العرّاب1972 الذي ساهم في تنميط الأقلية الإيطالية الكاثوليكية في أميركا. عدا ما هو حاصل من ميديا وثقافة غرضها إشباع الرغبات المختلفة عبر استحقاقات اجتماعية وفي مقدمتها الإشباع الجنسي حتى عبرالأفلام الإباحية.

أحداث مستمرة

نجيب الذي أخذه الأمن وقت وصوله إلى بيته، وفي أثناء وجوده في السيّارة يحصل انفجار، لم يختر الفرار الذي كان متاحاً أمامه بل ركض لمساعدة المتضررين، هو إنسان ينتمي لوطن يحبه ويحب ناسه بغض النظر عن اختلافه معهم في الفكر، فالاختلاف لا يعني الخلاف وكلمة معارض لا تنسف سمة الولاء وحب الوطن، فكفانا توزيع اتهامات على البشر.
والمحور الثالث كمال (فايز قزق) الذي حافظ على اتجاهه اليساري وقد نحا في مرحلة من حياته منحى عبثياً ظهر من خلال علاقته بالراقصة شاليمار رغم أنه متزوّج عن حب وامتلاء فكري، نجده يغوص في متعة السهر والشرب والجسد، ليستيقظ بعد غفلة على تراجع صحة زوجته مريضة السرطان فيلازمها بحب لم يتوقف وإن غفا قليلاً.
وهو صاحب مكتبة الكلمة يطرح النص من خلال المكتبة تراجع القراءة وشبه انقراضها، فطاولات في المكتبة تقدّم المشروبات لروّادها هي من تدعم المكتبة ماديّاً. وفي النهاية يحوّل كمال المكتبة إلى مقهى ويبيع العامل عنده الكتب لمصلحة معمل كرتون، حقاً إن وضع الثقافة في بلدنا يثير الوجع.
يظهر كمال شخصاً مبدئيّاً، عندما يقول له العامل الذي يعمل عنده إن الطاولات تعفيش يجنّ جنونه، ويطلب منه أن يرميها خارجاً، فيحلف له كثيراً ليصدّق أن الأمر مزحة.
وهو الرجل الحقيقي الذي ينفر ذات مرّة من فكرة أن ترقص له شاليمار وكأنّها جارية وهو بذلك ليس أكثر من رجل يتباهى بفتل شاربيه وبذكوريّته وهذه التفاهة لا تشبهه.
أم نجيب(ثناء دبسي) المديرة المتقاعدة ذات الشخصية القوية والقلب الكبير القادرة على تحمّل أقصى درجات الوجع والقهر يحملها خوفها على ابنها إلى حرق الكتب اليسارية بعد أن أخذه الأمن في اليوم ذاته الذي وصل فيه. والمؤلم في عملية الحرق تزامنها مع رقص شاليمار في الملهى الليلي، لقطة لكتب تحترق لتصير رماداً ولقطة لخصر يهز لا أحد يقول له ما هذا؟ وكأنّ حرية الجسد مباحة وحريّة الفكر غير متاحة.

لا تشبه حياتنا

تقف أم نجيب في وجه تحرّر فريدة الذي لا يشبه حياتنا، فتتفق معها على أهمية الإنسان فقط، أمّا حضارة الغرب فصارت قوانين واحترموا حقوق الإنسان لكنها قوانين هشة يمكن تسقط بأي لحظة لأنّها فاقدة للقيم الأصيلة، أعطوهم الحريات وهي ظواهر، لو نزعنا القوانين التي تحكم الغرب إلا يفرط المجتمع.
تواجه الموت لأجل خبر عن حفيدتها وتحمل خبر موتها بجلد وقوّة ولا تخبر ابنها بسرعة حتى لا ترهقه طريقة تلقّي الخبر. ولعل أكثر ما أضحكني الطريقة التي استقبلت بها الدكتور زهير وكمال بعد عشرين عاماً تخرج من غرفتها تنظر إليهما بقسوة تقول(هادا أنتو) وتعود إلى غرفتها، فهي لا ترحّب بيساريتهما التي رمت ابنها في الغربة ولا ترحب بعودتهما إلى حياته.
وصال (شكران مرتجى) هذه المرأة المذهلة التي تواجه خيانة زوجها بصمت، وتؤنّب ابنها الذي أتاها بالخبر، طالبة منه ألا يتدخّل في شؤونها وشؤون أبيه. تعود وصال إلى عملها لتواجه المرض (السرطان) وهي تعمل في مجال المخطوطات. وهي التي ارتبطت بكمال نتيجة حب وفكر تكتم وجعها المزدوج بسبب خيانته أولاً وتفشّي مرضها ثانياً. تقضي البقية الباقية من عمرها بصمت وضحكة، تعالج إهمال زوجها وابنها وابنتها برضا وتهتمّ بوالد زوجها(حسام تحسين بك). مريض الزهايمر الذي أضحكنا بمغامراته وذكرياته. تتعب مع عمّها لكنّها تعود لتكمل بحبّ يزوّدها به ابنها الصغير يوري الذي لا يفارقها ويوجه كلمات قاسية لأبيه وأخته لأنّهما أهملاها.
شاليمار (نوّار يوسف) التي أبدعت في دور الرّاقصة فكانت خفيفة الظل والحركة وهو دور جريء وجميل بلباس يناسب عرضه في التلفزيون.
شاليمار العاشقة وجدت في كمال الحبيب المرتجى فهي تحتاج قلباً يحتضنها، وهذا ما تفتقده في حياتها نتيجة طبيعة عملها، فتكون صحوة كمال وعودته إلى عائلته ورحيله عنها فاجعة قاسية لا تستطيع تجاوزها.

الحضور الخاص

آنّا ابنة نجيب ذات الحضور السحري من خلال عرض مذكّراتها تصلنا بتفاصيل جميلة مثل قصة العطّار الذوّاق في تركيب العطر لمّا طلب منها أن تشمّ عطراً لم يعجبها، سألها إن شمّت رائحة حقائب ومطارات، لتدرك بعدها أنه سافر. قدمت لنا تفاصيل عن الحرب من خلال ميلها إلى الوثائقية، إنها العطر الفوّاح في هذا المسلسل. تعاتب والدها في لحظة تجلّ بعبارة تؤكّد جهل مجتمعنا، فلا صوت للمفكر هناك صوت شيخ الجامع الذي قد يكون صوت باطل لا صوت حق، فالجوائز التي حصدها المفكرون والكتاب إن وضعت بكفة وبالكفة الثانية شيخ جامع أيهما يرجح؟
فريدة أقنعتنا بأنها تعيش في الغرب، تبرر علاقتها المفتوحة بنجيب وتنتصر لفكرة عيش مشترك حتى يتمكّنوا من الوصول إلى إعلان الزواج بشكل رسمي أو فرط العلاقة، فالحرية عندها لا تخضع لحدود والانفتاح ضروري لاختبار العلاقة. فريدة جاءت لتخبر نجيب بحملها منه من دون أن تلزمه بالولد وتعرّفت على أمّه وأخته لتضعهما في صورة علاقتها به وطريقة تفكيرها هي ونجيب.

نجوى أخت نجيب التي كرهت فريدة من وقت سمعتها تقول لنجيب على المسنجر إن ابنته قد تكون متورّطة بعلاقة مع شاب، هذا النّسف الأخلاقي لا يناسب طبيعة آنّا التي تعرفها، وكرهتها أكثر لمّا نسفت العرف والعادات وأعلنت علاقة غير شرعية بأخيها، نجوى تحب بلدها ترفض فكرة السفر وتريد البقاء مع أولادها وأمّها، تحاول إقناع زوجها فلا تستطيع.
تحسين المهندس الزراعي في البريد يتساءل ماذا سيقدّم في هذا المكان، يقدّم استقالته يبيع بيته بسعر زهيد ويسافر لاعناً الحرب متأمّلاً بغد أفضل لأولاده – الذين سيسحبهم- بعيداً عن صوت الرصاص وأشخاص يخرجون من بيتهم لا يعرفون متى يعودون. يسخر من فكرة تفشّي الموت بأنّه لو كان صاحب مطبعة لاغتنى من كثرة النعيات.
تحسين في هجرته وجد نفسه في ظروف أقسى من الحرب، فليست الهجرة بلاداً تفتح قلبها ويديها لاستقبالك، ليست بيتاً دافئاً وحياة أفضل، هذا ما ظنّه الأغلبية فكانت الهجرة انتظار موت شبه محتّم، لا يمكن لإنسان طبيعي أن يحتملها بسهولة. فهاهو ذا يعود بعدما خسر بيته وقاسى ما قاساه، لكنّه ربح أسرته.
وقف النص عند أزمة الماء في دمشق وأزمة المازوت وخلطه ماء وزيتاً واضطرار الناس إلى شرائه، وأزمة النفوس المريضة التي استهترت بنجيب الذي جاء إلى مخفر الشرطة ليسأل عن محضر ضبط ابنته المخطوفة فلم يردّوا عليه لأن الكهرباء مقطوعة. أزمة البشر الذي لم يعد يتحمّل أحدهم الآخر فيقتل بعضهم بعضهم الآخر على إشارات المرور، هذا إن لم يكن هذا مضمونهم الذي كان خفيّاً.

في هذا المسلسل نحن أمام حدث ناضج لا يطول ولا يقصر يأخذ حجمه الحقيقي، وأمام طاقات مذهلة في التمثيل وإخراج رائع، ترجمان الأشواق عمل جميل وممتع نشتاق دائماً لهذا النوع القوي في درامانا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن