ثقافة وفن

السياسة وأصحابها

| إسماعيل مروة

هناك خلط بين السياسة والسلطة التنفيذية، كما هناك خلط شديد وخطير بين الدولة والسلطة، وهذا التداخل جعل الناس في بلادنا جميعاً يحملون تعبيراً مسيساً، وهو تعبير مضلل ومخادع، إذ يحمل في طياته امتداحاً للناس الذين ينخرطون بالعمل السياسي، أو بالإدلاء بالآراء السياسية، ولكنه في الوقت نفسه يدفع إلى اعتقاد الكثيرين ممن يهبشون رأياً من هنا وآخر من هناك أنهم جديرون باتخاذ القرار السياسي أو على أقل تقدير بالمشاركة في الرأي السياسي!
وما جرى من حرب كونية، وحروب تدميرية في أرض سورية خلال السنوات المنصرمة يؤكد بما لا يقبل الشك أن اللعبة السياسية مختلفة، وأن فكرة الإنسان السوري المسيس ليست أكثر من خديعة كبرى، فلو كان الناس مسيسين بالشكل الطبيعي والإيجابي لكانت ردود أفعالهم مختلفة حيال ما يجري، فمتى أولئك الذين كانوا في السلطة التنفيذية، وكثير ممن هم اليوم في السلطة التنفيذية لا علاقة لهم باللعبة السياسية بالمعنى الحقيقي، وإلا فبماذا نفسر توقعات وتنبؤات وأحلام من كان في السلطة، وهو الذي يفترض أنه يفهم في اللعبة السياسية، وهو أدرى بالمصالح، وأكثر حرصاً عليها، ولو كان يملك الدراية السياسية، فإنه لن يضحي بها من أجل شيء لا يعرفه ولا يدريه، ولا يعرف مآله ومصيره، وكان الأجدى بهؤلاء الذين خرجوا، أو الذين لا يزالون في مواقعهم، ويتوهمون المعرفة أن يعملوا على إجادة عملهم الذي يتقنونه- هذا إن كانوا يتقنون عملاً- وكذلك المثقفون الذين طالتهم حمى السياسة، فإن كان واحدهم قد درس ابن خلدون وتاريخه، وربما أنجز فيه أطروحة، فهذا لا يعني أنه صار خبيراً بالسياسة ورسمها وتحديد دهاليزها، بل إن سيده ابن خلدون مع ما كتبه بقي صاحب نظرية، ولم يتصد المشهد بمعنى التصدر، وإن كان قد استشير في قضايا، فإنها كانت بتكليف من الساسة لإدارة أزمة أو مواجهة أمرٍ ما كان في مواجهة الأحداث.
أن تكون مثقفاً أو منظراً أو صاحب نظرية في اختصاصك فهذا لا يعني بالضرورة أنك سياسي محنك! وكل المثقفين الذين رأيناهم يتحدثون في السياسة وسيرورة الحدث تضاءلوا في أعين متابعيهم، وإن كانوا من محبيهم في مراحل ما! فظهر الجهل والإسفاف والتعصب والتحجر وزيف الرحلة الطويلة لصاحب الرأي والثقافة! وكان من الأجدى أن يتحدث في إطاره لإصلاح ما يمكن إصلاحه، لا أن يكون طرفاً في المعادلة السياسية، وخاصة أولئك الذين صاروا في أرذل العمر وهم يتقلبون في النعيم بفضل الأنظمة السياسية التي قد لا تنسجم مع طروحاتهم التي مرّ عليها عقود، لكنها تنسجم مع جيوبهم ومصالحهم! فنسمع الشيوعي من الجزيرة العربية، ونسمع الإخواني من موسكو!
هل هذا هو الشعب المسيس الذي كنا نبحث عنه ونباهي بوجوده؟
وإذا ما انتقلنا إلى طبقة رجال الدين والعلماء، ولا أتحدث هنا عن المشايخ والخوارنة الذين وجدوا لخدمة الرعية بشكل مباشر، وإنما عن أولئك الذين تصدروا المشهد الديني، ونظروا وأوجدوا وفسروا وتحركوا واستفادوا والتقوا وتحاوروا فإن الأمر يصل حد الكارثة، فالدين الذي هو شأن فردي بين الإنسان وخالقه قاموا بمأسسة من أجل رعاية مصالحهم وتربعوا على قمته! لا بأس أن يبحثوا عن هذه المصالح، لكن أن يتحولوا إلى ساسة، ويريدوا أن يكونوا أصحاب القرار فهذا أمر مشكل للغاية، وخاصة أن كثيرين منهم تقتصر معارفهم على القرآن الكريم أو الكتاب المقدس، هذا إن أجاد بعضهم فهمه وقراءته وتفسيره وتحليله.. وفي هذه الحرب انقسم هؤلاء من تلقاء أنفسهم، لم يعمل أحد على تقسيمهم، وإنما هم من قام بالتقسيم، ورأينا من يشعل النار في الأقطار العربية كافة، ويدنس أرض الأوطان الطاهرة بسجود شكر، ولكنه يمكن أن يبيح لمن يعيش في أحضانهم كل أنواع الموبقات والتجاوزات، بل إن التحولات التي تشهدها المنطقة العربية، وليست الحروب وحدها، كشفت لنا صنوفاً من الناس يصدرون الأحكام والفتاوى، وهم قادرون على تغييرها إلى النقيض خلال دقائق، فالموسيقا حرام ساعة، ولكن إن شاء الحاكم صار الرقص حلالاً والكولا حراماً، وإن شاء الحاكم فإن الخمر حلال وإن ظهرت صورته في وسائل الإعلام، وأوجدوا المسوّغ له، أليس الأجدى لهؤلاء الأجلاء أن يبقوا في مكتباتهم وصوامعهم ومساجدهم يرشدون العامة بدلاً من أن ينخرطوا في العمل السياسي الذي يهدم أول ما يهدم النص المقدس ويجعله عرضة للسخرية من أتباعه قبل أن يكون من خصومه!
فالنص نفسه يطلب التمرد أو الانصياع حسب رأي الشيخ، والشيخ نفسه يطيع ساعة ويتمرد أخرى حسب مقتضى الحال، وربما بسبب معرفته الدينية وضع نفسه إلهاً وحدد أسباب المواقف كما هي أسباب النزول!
ولو وقفنا مع الفنانين كان الأمر طامة كبرى، فقد كتبت في ذلك مرات، فالفنانون وكثيرون منهم يتمتعون بالفهم، ويقرؤون، ولهم من يحبهم بين الناس، ولكن مع بداية (الربيع العربي)، وفي مصر تحديداً، تمت الاستعانة بالفنانين والفنانات للتجييش مع أو ضد، واستمرأ الفنانون اللعبة، وصاروا أبطال الشاشات السياسية، فهذا يحلل، وذاك يدافع، وثالث يدفع، ورابع يقود، بل إن الإعلام إن كان مع أو ضد استغل حب الجمهور لهذه الفئة، كما استغل انقياد الناس لعلماء الدين، وحولهم إلى قادة للرأي! قلت إن هناك قدراً لا بأس به من الفنانين لديه قراءة ووعي، وهذا ما حققه من أجل مهنته وتطوير ذاته، وعندما تخرب الأمور فإنه بإمكانه أن يأخذ جانباً أو يعتزل ليمارس قناعته المواطنية، وأعرف عدداً كبيراً منهم ومن علماء الدين التزموا الصمت، ولم يوقظوا الفتنة، لكن أن يتم استغلال هؤلاء وجمهورهم من أجل إيقاد الفتنة، فهذا يؤكد أنهم غير مسيسين وسمحوا للآخرين أن يركبوا على ظهورهم وأسمائهم للوصول إلى غايات لا علاقة لهم بها، وقد رأينا الإنسان الذي يملك انحيازاً فكرياً متطرفاً لهذه الجماعة أو تلك، يصبح مزماراً لقناعات مناقضة إيديولوجياً ودينياً ومذهبياً وطائفياً، ولا يمكن أن يقنعني بأن اللبوس الوطني هو الذي يحركه فالشعار واضح والغايات موجودة!
الفنانون في أغلبيتهم بلعوا الطعم، وغرّهم الامتداح والنفخ والنجومية فانحازوا إلى جانب دون آخر، ولم يلتزموا بالانحياز إلى الوطن والإنسان، ولو فعلوا لكان بالإمكان أن يتم تشكيل جبهة عريضة تعمل على إيقاف الصراع بالحب والفن.
نتغنى بالغرب وديمقراطيته والشرق ونهوضه، ولكننا لا نتمثل هذا التغني، فكل إنسان يقدم نفسه في ميدانه، وينتقد بطريقته، ويمكن أن يصل الممثل الجاد أو الهزلي إلى سدة الحكم كما حدث مع ريغن وسواه، وعندما يصل يمكن أن يطبق رؤاه ورؤى الحزب الداعم له، لكن أحداً لا يسجل له انحيازاً سياسياً أهوج قبل أن يصل.. للسياسة أهلها وأصحابها، فكن منهم منظماً وهادئاً، ولا تتخيل أنك يمكن أن تقود السياسة لأنك مثقف أو رجل دين أو فنان!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن