ثقافة وفن

سيرة محيي الدين ابن عربي وما رافق حياته من أسرار وحكايات … «مقامات العشق» إبراز مفهوم التسامح وأهمية الحب والتعايش والإنسانية وتكريس الفكر الوسطي

| وائل العدس

تمكن المسلسل السوري «مقامات العشق» الذي عرض خلال شهر رمضان من شد انتباه الجمهور وبث الروح في الأعمال الدينية والتاريخية التي تحولت إلى عملة نادرة في زمن سطوة مسلسلات تحاكي لغة العصر والتطور.
ورغم أن العمل قراءة فلسفية في المدرسة الصوفية، وبهدوء تجليه الأغاني والموشحات والموسيقا، إلا أن ما قدمه من حوار راق ولقطات مدهشة وأداء تمثيلي مبهر ورؤية إخراجية فنية عالية، يجعله من أهم أعمال هذا الموسم بامتياز.
المسلسل من تأليف محمد البطوش وإخراج أحمد إبراهيم الأحمد وتمثيل نسرين طافش ويوسف الخال ومصطفى الخاني ولجين إسماعيل وقمر خلف وسارة فرح ومحمد حداقي ونادين خوري وعاكف نجم وزيناتي قدسية ونادرة عمران وجهاد سعد ومحمد حمادة ونتاشا شوفاني ومروة الأطرش ووسيم قزق وساندي نحاس وخالد شباط ومجدي المقبل وريم زينو وريم نصر الدين وهشام كفارنة وسلمى سليمان ويوسف المقبل والطفل محمد السمكة.
التأليف الموسيقي طاهر مامللي، الاستشارة التاريخية أحمد المفتي، سينوغرافيا بديع جحجاح، غناء الشارة صفوان العابد ومحمود فارس ومحمد هباش وسارة فرح، المخرج المنفذ مضر إبراهيم، المنتج الفني حمادة جمال الدين.

حالة فريدة
تبدأ قصة المسلسل بولادة «ابن عربي» في أُسرة صالحة على الشاطئ الشرقي لمدينة مرسيه في الأندلس في شهر رمضان عام 560 هجرية الموافق لـ1165 ميلادية.
وكأن القدر اختار الزمان والمكان لهذا المولود الذي يمثل حالة فريدة في التاريخ العربي الإسلامي، بل في التاريخ الإنساني كله.
لم يكن الأب يعلم أن هذا المولود الذي طالما دعا اللـه أن يرزقه به، سيمثل الوحدة الحضارية بين شطري البحر المتوسط، محور الحضارات البشرية.
وفي أجواء ازدهار العلوم والفنون والعمارة، نشأ الطفل الذي سرعان ما رحل مع أبويه إلى إشبيلية عاصمة الأندلس، ولم تكن رحلة عادية لذلك الصبي، فقد غرزت فيه بذور التأمل في الكون الشاسع، حيث لاحظ تغير الأشياء من حوله، الأشجار والجبال والسهول، لتخلق في رأسه الصغير كماً من التساؤلات، حتى إن أباه انتبه إلى شروده الدائم وافتعل معه أول حوار فلسفي حول الوجود، وكم كانت دهشة الأب عظيمة حين سأله الطفل عن شيء ثابت لا يتغير مع مسير موكبهم الصغير.
وقد أدرك «ابن عربي» من خلال دراسات من سبقوه من فلاسفة العرب، أن المرء لا ينال مراده إلا إن خالف نفسه، مطلقاً مقولته الشهيرة: «لا ينال غاية رضاه إلا من خالف نفسه وهواه». ولأنه كان يبحث عن الكيفيات، سافر ليلتقي العلماء ويسمع منهم وجهاً لوجه ويسألهم ويجادلهم ويناقشهم في المعارف والعلوم.
تعلقت روحه بالسفر والترحال، وأحب خلوته وفضاءات التأمل والبحث في أسرار الوجود، وطاف بلاد الأندلس والمغرب العربي، حيث التقى الكثير من علماء عصره.
ولعل «ابن رشد» كان أحد أعظم العلماء الذين التقاهم في عصره، ففي تلك الفترة كان «ابن رشد» اكتمل عقله وتمت فلسفته، على حين كان «ابن عربي» في مقتبل حياته الفكرية، وأحس أنه يقف أمام بحر عظيم يموج بالفلسفة والعلوم، كما أحس أنه زهرة تتفتح في بستان المعرفة الكبير لابن رشد، المترامي الأطراف. إلا أن «ابن عربي» فوجئ أن«ابن رشد» سمع به، ليس لأنه صديق والده، بل لأنه يملك من علم الفلسفة ما لفت انتباهه.

رسالة الفن القوية
يقدم العمل الصراع بين الإسلام المتطرف والإسلام الحقيقي الوسطي المجابه للتشدد، على الصعيدين الفكري والجمالي، من خلال الاستعانة بالحب والتشويق والإثارة لإيصال الحكاية.
ويقدر العمل رسالة الفن القوية والمؤثرة في الشعوب، ويبرز مفهوم التسامح بطرق إنسانية، بغض النظر عن الطائفة والدين والعرق، وهذا قمة الإنسانية والوعي ونبل الأخلاق، بما يحمله من رسالة محبة وسلام، ودعوة للتصالح مع الآخر مهما كان مختلفاً عنّا.
ويتناول المسلسل سيرة الشيخ محيي الدين ابن عربي وهو أحد إعلام الصوفية وما رافق حياته من أسرار وحكايات، وقد لقبه أتباعه من الصوفية بألقاب عديدة، منها الشيخ الأكبر، ورئيس المكاشفين، البحر الزاخر، بحر الحقائق، إمام المحققين، محيي الدين، سلطان العارفين.
وعرف ابن عربي عند الصوفية بالشيخ الأكبر خصوصاً، وهو أحد كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور، كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن إعلام الزهد والتقوى والتصوف، وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ ضمن جو ديني.
ولقب ايضاً شيخ الصالحين، كان صوفياً، يحمل التفسير العميق والمختلف لمعاني القرآن والسنّة، وتوافق مع البعض من الشيوخ واختلف مع آخرين، وكانت بينه وبين البعض معارك فكرية شرسة، وصلت إلى الحد الذي اتهمه فيه معارضوه بالكفر والزندقة، واعتبروه مصدر خطر على أفكارهم.
وشهد ابن عربي صراعات ومعارك عديدة بين تيار التطرف والتكفير وبين الإسلام الحقيقي المعتدل والمتسامح، وإن كانت شخصية ابن عربي مهمة في تاريخنا الفكري، فإن طرحها في هذا الوقت هو مسؤولية فكرية وفنية وأخلاقية، وهو أحد القامات الفكرية الكبرى في تاريخنا كله، وفكره يتعلق بالوجود وبغاياتنا وسلوكنا كبشر.

فلسفة الحب
ركز المسلسل على سيرة الشيخ الأكبر لكن مؤلفه نسج قصة حب متخيلة وغير موجودة تاريخياً بين «ست الحسن» و«شيخ الصالحين».
ويدور العمل في قالب درامي راق وبلغة يراقص الشعر فيها الفلسفة، وتقوم فكرته على تكريس الفكر الوسطي، المسالم، الذي يعترف بالآخر ويسمح له بالعيش معه، بل إن الفكر الصوفي الذي قدّمه هو الفكر الوسطي، ليس دينياً فحسب بل حياتي واجتماعي أيضاً.
ويقوم العمل على فلسفة الحب الإنساني والإلهي، الأمر الذي جعله جاذباً لقلوب الناس قبل عقولهم، وأظهر أن أهل الطريق أو الصوفيين يجمعون محبة اللـه مع سلام أزلي، لا تغريهم معتركات الحياة ولا يبحثون عن غنيمة أو أرباح، ولا يمتطون الدين لتحقيق مكاسب.
يقدم «مقامات العشق» شخصية «سلطان العارفين» الذي يمثل خطاً أصيلاً في الحضارة الإسلامية، ويرى أن الحقائق المتعددة حقيقة واحدة، وأن جوهر الأديان واحد، ويبرز مفهوم التسامح وأهمية الحب والتعايش والإنسانية والفكر والإسلام الوسطي.
وقد وجد الناس في العمل مكاناً للسلام والحب وهو عمل ينفض الغبار عن الأدمغة والقلوب معاً.

شخصيات العمل
يعد هذا العمل من أهم التجارب التي خاضتها نسرين طافش في مسيرتها الفنية، التي تمتد لأكثر من 14 عاماً، وربما ساعدتها على تحقيق نقلة نوعية بشخصية نالت من خلالها ردود أفعال إيجابية، عبر مواقع التوصل الاجتماعي وإشادات من صناع الدراما ونقادها.
«ست الحسن» هي شخصية غنية وعميقة ومركبة، حيث تمر بخمس مراحل عمرية تمتد مئة سنة تقريباً، لكن القصة لا تعتمد على الشكل فقط، بل تطلب أدوات حاضرة تواكب التغييرات الشكلية التي تطرأ عليها.
«ست الحسن» هي امرأة غير عربية تعيش مرافقة للشيخ ابن عربي منذ مرحلة والده «علي» وحتى آخر يوم في حياته، وقد جمعت بين التمثيل والغناء والرقص.
وقد تمكنت من تقمصها نتيجة حبها للشخصية نفسها والعمل كله، فهذا الحب جعلها تلعب الدور بصدق وعلى أكمل وجه، وجعل تفاصيل الشخصية تتدفق إليها من دون استئذان، إلى جانب النص والحدوتة التي استفزتها لإظهار كل طاقاتها التمثيلية، بحيث إن دورها كمربية روحية للشيخ محيي الدين ابن عربي، ومواكبتها للأحداث قبل ولادته، كان غاية في الثراء والتنوع.
أما يوسف الخال الذي جسد شخصية «علي» والد الشيخ الأكبر فقد أبدع في تجسيد شخصيته، وترك أثراً قوياً لدى المشاهد، بالسماحة والنورانية التي كان يؤدي بها الدور.
وتبرز شخصية «الشيخ حامد» الذي يؤديها مصطفى الخاني، وهو رجل دين متطرف يستطيع من خلال فكره المتشدد وقدرته على الإقناع على اللعب بالعقول، ويقود التيار المضاد لابن عربي، حيث يدخل في المجتمع بطريقة ذكية ومؤثرة في الشباب، سعى فيها إلى التأثير بالفكر ويردد بأن «قْتل فكر ابن عربي أهم من قتْل ابن عربي».
أما الشاب لجين إسماعيل الذي قدم شخصية الشيخ الأكبر بشبابه وكهله فأبدع هو الآخر في أول بطولة يقدمها بهذا الحجم وهذه الأهمية، وقد بحث مطولاً بعمق ليعرف تفاصيل حياة ابن عربي، كيف يقرأ ويكتب ويمشي، وقد وجد كتباً بخط يده تبين بعض هذه التفاصيل.

وأخيراً
حان الوقت لتقديم دراما من هذا النوع، مثل «مقامات العشق»، الذي يتضمن رسائل مهمة مثل الحب والسلام والتسامح والتصالح مع الآخر، وتقديم هذه القصص حتى في الأعمال المعاصرة، ولا يقتصر تقديمها فقط في الأعمال التاريخية.
طرح هذه الأفكار والمواضيع في هذا التوقيت بالذات، أمر بالغ الأهمية، فمن المهم جداً أن نحكي عن تلك الشخصيات في هذا الوقت، لأننا بحاجة إلى هذا الفكر المتوازن.
وتعتبر الدراما السورية منبراً متفرداً قدم العديد من الأعمال التاريخية المؤثرة في خريطة الدراما العربية واهتمت بسير أعلام التاريخ في المنطقة العربية وأبرز أحداثها، لكن ربما المسلسلات الدينية ودعت عصرها الذهبي الذي عاشته في السابق بعد أن سحبت المسلسلات العصرية والشبابية البساط من تحت أقدامها.
وترجع ندرة الأعمال التاريخية في رمضان بالأساس إلى ضخامة تكاليفها الإنتاجية وتحريم تجسيد بعض الشخصيات الدينية وقلة التسويق وعزوف القنوات الفضائية عن شرائها وغلبة الرؤية المتطرفة على بعضها.
إن الأعمال الدينية المعتدلة والبعيدة عن التطرف والتشدد الديني تلعب دوراً كبيراً في إنارة العقول وتقويم الأخلاق، لدرجة أن بعض المسلسلات كانت تهدى للدول بعد ترجمتها إلى لغات مختلفة للتعرف على جذور الإسلام المعتدل والمستنير وروح التسامح والتعايش بين الأديان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن