ثقافة وفن

سورية تضع أمامك تاريخاً يمتد لآلاف السنين … قلعة الحصن من أكبر القلاع العسكرية في العالم ومن أروع ما أبدعه فن العمارة

| المهندس علي المبيض

سورية تعرض أمامك تاريخاً يمتد لآلاف السنين فهي مهد الحضارات التي ازدهرت خلال مسيرتها الحافلة تشهد بذلك المعالم التاريخية والمباني التراثية والأوابد التي خلفتها تلك الحضارات، وعندما تبدأ بالتعرف على التاريخ السوري فإنك تقف أمام عالم أسطوري أقرب للخيال… تدمر على سبيل المثال تلك اللؤلؤة القابعة في قلب الصحراء، أوغاريت، عمريت، أفاميا، ماري، إيبلا، دوراً أوروبوس، الممالك الآرامية، ومعلولا، حيث تحمل هذه المواقع بصمات أجدادنا الأوائل ومازال القائم منها يروي قصص الشعوب والأمم التي مرت عليها، قلاع وحصون تقف اليوم شامخةً فوق قمم الجبال تمثل صمود السوريين في وجه الغزاة واستبسالهم في الوقوف في وجه الطامعين بنهب خيرات وطننا الغالي.

كان قد وصل بنا الحديث في المقال السابق إلى مدينة حمص التاريخية وبينا مدى تأثرها وتأثيرها بالحضارة من خلال شخصيات بارزة تركت بصمات واضحة في التاريخ العالمي أمثال جوليا دومنا وعائلتها التي تربعت على كرسي الإمبراطورية الرومانية والتي كانت تسيطر على نصف العالم وسنكمل في هذا المقال الحديث عن بعض القلاع والحصون التاريخية في حمص.
قلعة حمص أو قلعة أسامة تقع جنوب غرب مدينة حمص القديمة وترتفع 533 م عن سطح البحر وهي تقوم على تل أثري قديم يرتفع عما حوله بحدود 32 م وكانت المكان الأول للسكن في حمص ويعود تاريخ بناؤها إلى الألف الثالث قبل الميلاد وتبدو القلعة من الداخل مدينة متكاملة فيها أماكن للإقامة ومساكن ومستودعات ومبانٍ إدارية ويحيط بها سور شبه دائري وتضم بقايا أبنية من العهود الرومانية والبيزنطية والعربية كما تضم برجين يعود تاريخ بنائهما إلى العهد الأيوبي حيث لعبت دوراً بارزاً في الفترة الأيوبية والمملوكية وأكثر تحصيناتها من العهدين المملوكي والعثماني.
قلعة الحصن واحدة من القلاع الأثرية الجميلة ليس فقط في سورية بل في الشرق الأوسط والعالم تقع في وادي النضارة وتبعد عن حمص من الجهة الغربية مسافة 60 كم كما تبعد عن مشتى الحلو مسافة 30 كم من الجهة الجنوبية وتقوم فوق السفح الشرقي للجبال الساحلية، ترتفع نحو 750 م عن سطح البحر، وهي تنتصب فوق هضبة بركانية قاعدتها من الصخور البازلتية سوداء اللون، ما يجعلها محصنة بشكل طبيعي إذ تحيط بها وديان شديدة الانحدار من جهاتها الثلاث فيصبح من الصعب اقتحامها، تم تسجيلها في عام 2006 على لائحة التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو، وتعتبر من أهم قلاع القرون الوسطى لم يتم بناؤها دفعةً واحدةً بل بنيت على عدة مراحل حيث بدأ بإشادتها عام 1031 م من المرداسيين لتكون نقطة مراقبة للطرق الرئيسية المشرفة عليها بين الساحل والداخل وبشكل رئيسي حماية طريق القوافل التجارية القادمة من سواحل بلاد الشام، وسكنها الأكراد خصيصاً لهذه المهمة لذلك فقد أطلق عليها منذ تلك الفترة حصن الأكراد، تحتل قلعة الحصن موقعاً إستراتيجياً مهماً ومتوسطاً بين حمص وطرابلس وطرطوس وبحكم هذا الموقع المهم فإنها تسيطر على ممر القوافل التجارية والعسكرية بين الساحل والداخل السوري وفي عام 1142 م استولى عليها ريموند الثاني أمير طرابلس وقام بتسليمها إلى فرسان القديس يوحنا المعروفين باسم فرسان الإسبتارية أو فرسان مالطا الذين أعادوا بناء الأقسام الرئيسية وأسسوا دفاعات جديدة واستمر البناء نحو 75 سنة كما أقامت فيها حامية من المتطوعين لأعمال التمريض والطبابة إبان الحقبة الصليبية عرفوا باسم فرسان المشفى وأصبحت القلعة تعرف باسم كراك دو اوسبيتال (Crac De L›Ospital) وفي القرن التاسع عشر الميلادي صيغ الاسم إلى قلعة الحصن بالفرنسية (Krak Des Chevaliers).
وباعتبار أن القلعة كانت تقع على طريق الحج إلى القدس أو كما تسمى «الأرض المقدسة» فقد أصبحت سكناً لعدد من الفرسان من أجل أن يزودوا الحجاج بالمؤن اللازمة لعودة الحجاج.
ويعتقد بعض الباحثين أن القلعة أقيمت فوق أطلال قلعة أقدم منها هي قلعة شبتون التي أقامها الفراعنة عندما غزوا سورية بقيادة رعمسيس الثاني في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
وتعد قلعة الحصن نموذجاً كاملاً للقلاع العسكرية المحصنة ومن أروع ما خلفته لنا القرون الوسطى من فن العمارة والتحصين العسكري حيث وصفها لورانس العرب بأنها أهم قلعة من حيث الفن العسكري والقيادة في القرون الوسطى كما تعتبر قلعة الحصن من أكبر القلاع العسكرية في العالم إذ تبلغ مساحتها نحو 30000 م2، تقريباً تأخذ القلعة شكلاً بيضوياً وتمتد مع خندقها على مسافة 240 م من جهة الشمال إلى الجنوب و170 م من جهة الشرق إلى الغرب، وتمتاز القلعة عن باقي القلاع بأسلوبها المعماري والفنون المستخدمة فيه ومن أبرزها الفن القوطي الذي يعتبر من أجمل فنون العمارة في القرون الوسطى وقد نقله الأوروبيون إلى أوروبا واستخدموه في بناء الكنائس في أوروبا كما تتميز بلون حجارتها الكلسية حيث يتصف الحجر الكلسي بأنه خفيف الوزن وطيع أثناء النحت، وتتكون القلعة من حصنين يفصل بينهما خندق محفور بالصخر:
الحصن الداخلي وهو قلعة قائمة بذاتها يحيط بها خندق يفصلها عن السور الخارجي ولها بوابة رئيسية تتصل بباب القلعة الخارجي بواسطة دهليز طويل ينحدر تدريجياً حتى الباب مؤلفاً منعطفاً دفاعياً في منتصفه، ولهذا الحصن ثلاثة أبواب مفتوحة على الخندق ويمتاز بأبراجه العالية ويتألف من طابقين: الطابق الأرضي ويضم فسحة سماوية تحيط بها الأقبية والعنابر وقاعة الاجتماعات والكنيسة والمطعم والقاعات والمعاصر، والطابق العلوي يضم مهاجع وأبراجاً وتم حفر الخندق المحيط به في الصخر ويبلغ طوله نحو 70 م تقريباً يملأ بالماء بواسطة أقنية محمولة على قناطر تأتي من الهضبة المجاورة ما يزيد من منعتها وتحصينها.
الحصن الخارجي هو السور الخارجي للقلعة وهو حصن قائم بذاته يتألف من عدة طوابق فيه القاعات والإسطبلات والمستودعات وغرف الجلوس وهو مزود بـ13 برجاً وحامية للسور الداخلي بعضها دائري وبعضها مربع أو مستطيل وهو محاط بخندق، وتضم القلعة قاعات وفراغات متنوعة من أهمها:
قاعة اجتماع الفرسان الفريدة في هندستها المميزة التي تعتمد الفن القوطي بشكل رئيسي.
الكنيسة التي تم تحويلها في العهود الإسلامية إلى مسجد وكان للكنيسة بعض الرسوم القديمة التي تزينها مازالت آثارها موجودة حتى الآن، المخازن التي تخزن فيها المؤنة للجنود ويوجد فرن دائري الشكل لصناعة الخبز، مهاجع نوم الجنود، المطبخ، غرف الحرس، إسطبلات، مرامي صب الزيت المغلي على المهاجمين، المسرح وهو ذو شكل دائري، الأبراج العلوية وفيها برج قائد الفرسان وبرج قائد القلعة وهو البرج الوحيد المبني على شكل دائري، برج بنت الملك، برج الربط بين السورين، ساحة داخلية.
إن موقع قلعة الحصن يدل على الخبرة العسكرية الكبيرة للسوريين القدامى إذ تشرف قلعة الحصن على مساحات شاسعة من المناطق المحيطة بها حيث يتمكن زائر قلعة الحصن أن يرى بحيرة قطينة وجبال لبنان والبحر الأبيض المتوسط وبرج صافيتا وعدة قرى محيطة بها وسهل عكار اللبناني والطريق الدولي حمص – طرطوس.
تعرضت القلعة إلى عدة زلازل شديدة شأنها في ذلك شأن باقي القلاع والحصون ونجد أنه من المفيد أن نشير بهذه المناسبة إلى نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى وهي أن الزلازل لعبت دوراً كبيراً في تحديد مسار وجود القلاع ومصائرها بشكل عميق يكاد يماثل دور الحروب في خطورته، حيث أصابها زلزال شديد عام 1157 م دمر إضافة للقلعة العديد من المباني في بلاد الشام كما أصابها زلزال مدمر عام 1169 م ولم يبق فيها سور قائم وفي عام 1201 م أصاب القلعة زلزال شديد أحدث فيها أضراراً جسيمة وبعد كل زلزال كانت ترمم ويتم زيادة تدعيمها وتحصينها وإنشاء حلقات دفاعية ومبان جديدة.
النقطة الثانية وهي أن مجرد انتقال السيطرة على القلعة من يد إلى يد كان يكفي لإجراء تعديلات كبيرة على شكلها وتحصيناتها وحتى هويتها الثقافية ومواصفاتها المعمارية ومعظم القلاع في سورية انتقلت بين الأيدي المتصارعة أكثر من مرة، ففي الفترة المملوكية جعل الظاهر بيبرس قلعة الحصن مركزاً لنائب السلطنة وأشرف بنفسه على ترميمها وتدعيمها وأضاف إليها أبراجاً ومنشآت عديدة وخاصةً على الواجهة الجنوبية حيث تم تحصينها من الجهة الجنوبية بإشادة برج السلطان سيف الدين قلاوون وهو برج مستطيل ضخم بارز يقع على الجهة الجنوبية للسور الخارجي، وحفر عليه تاريخ عام 1285 م بعد ذلك سلم الظاهر بيبرس القلعة إلى الملك قلاوون حيث بنى فيها البرج المربع الشكل من الجهة الجنوبية للقلعة وهو برج دفاعي في السور الخارجي للقلعة وهناك بعض الكتابات العربية على الواجهة الأمامية للبرج، وفي فترة الاحتلال العثماني للمنطقة أهملت القلعة إهمالاً كبيراً حيث سكنها أبناء المناطق المجاورة وبنوا مساكنهم داخلها وعلى أسطح الأبراج ومكثوا فيها قرابة قرنين من الزمن وقسموا القلعة لعدة حارات وتحولت القلعة إلى قرية صغيرة وألقيت فيها مخلفات وبقايا مواد البناء والأنقاض واستمرت القلعة على هذا الحال حتى عام 1927 م.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن