ثقافة وفن

د. عبد الكريم اليافي مكرّماً في ندوة الأربعاء الثقافية … منارة علم ومعرفة لن تطفئها سنوات الرحيل والغياب وقد ترك عشرات الإسهامات وأجيال من الطلبة

| سوسن صيداوي - ت: طارق السعدوني

عطاءات لابدّ أن تبقى شمعة وقنديلاً في درب كلّ من سعى للعلم وأحب التنوير المعرفي. النزعة الإنسانية هي السمة الأعم رغم جدليات الفلسفة وتناقض المفاهيم وصراعاتها، ليبقى الرأي السديد المرتكز إلى الأسس المتينة، فيه العِبر بتقريب الاختلافات. المفكر الموسوعة… في معرفته أبحر، وفي وفائه وحبه لـلغته العربية الأم، بحث كي يؤكد جدارتها في بلاغتها ومرونتها واحتوائها لكل التطورات في كل المجالات، في الفلسفة تعمّق وفي علم النفس والفلسفة كان مصيباً للجمال وللخلق المجتمعي. د. عبد الكريم اليافي رحل عنا منذ إحدى عشرة سنة، لكن ذكراه ستبقى مؤبدة بهمم الناهضين بالثقافة، والساعين لإيصال كل معرفة لكل من طلبها. ولهذا وبرعاية وزارة الثقافة أقيمت في مكتبة الأسد الوطنية ندوة قامات في الفكر واﻷدب والحياة الشهرية الرابعة، والتي حملت عنوان: «عبد الكريم اليافي المفكر الموسوعي واﻷديب البارع»، وتضمنت ثلاثة محاور تحدثت عن الموسوعي والباحث والمفكر اليافي في العديد من الجوانب، والتي داخل فيها كل من د. علي إسبر، ود. عدنان مسلم، إضافة إلى إدارة الندوة من د. إسماعيل مروة، متحدثاً عن اليافي في الشعر والأدب. وحول الندوة نفيدكم بالمزيد.

عالم الاجتماع على المستوى العربي
في تصريح لـ«الوطن» تحدث دكتور عدنان مسلم بإنه وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على رحيل اليافي، مازال فكره مستمراً واسمه مرتبطاً بميادين معرفية مختلفة «لقد ارتبط اسمه بعلم الاجتماع، وأينما ذهبنا في الوطن العربي يذكر اسمه، وهذا يجسد القيمة المعرفية للدكتور اليافي، فهو شخص موسوعي، وكل ما قدمه يدرس في الجامعات العربية ويعاد إنتاجه معرفياً بأساليب مختلفة وهذا شيء جميل». أما عن مشاركته في الندوة والرأسمال المعرفي والاجتماعي فقد لفت إلى أن عبد الكريم اليافي قدم الإنتاج المعرفي الوفير للعلم ورواده، وعلى الخصوص في مجال رأس المال المعرفي والاجتماعي رافداً المكتبة العلمية بكتب ذات علاقة بالثورة المعرفية الاجتماعية. متابعاً «هذه المشاركة أعتز بها كثيراً، وسأتحدث عن الرأسمال المعرفي والاجتماعي للدكتور عبد الكريم اليافي، وأقصد بالجانب المعرفي أي الإنتاج العلمي والفكري المتجسد بالجوانب الفكرية والنفسية بشكل خاص، لأن الدكتور اليافي موسوعة فكرية ارتبط إنتاجه بمواضيع كثيرة من الفلسفة، علم الاجتماع، الطب والفيزياء والكيمياء. والجانب المعرفي بدراساته سأعرضه باختصار فيما يتعلق بالجانب الرأسمالي. على حين سأتطرق إلى الجانب الآخر وهو الرأسمال الاجتماعي، الذي تجسده نظرية الرأسمال الاجتماعي لعالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) بتطبيق عناصرها المتجسدة في عامل الثقة وعامل العلاقات الاجتماعية وعامل القيم المنظومة القيمية، سأوضح هنا أن هذه النظرية التي تقول: إن لكل فرد مجتمعاً ولكل مجتمع منظومة قيمية ومؤسساتية، وهذه المنظومة عندما تتراكم فيها الجوانب الإيجابية تتجسد بالمجتمع، فيكون المجتمع معافى. وهنا ستتم الإشارة إلى تأثير هذه المنظومة على اليافي نفسه في ما يتعلق بالجانب القيمي، وكيف كان يتعامل مع الآخرين، والجانب الآخر المنظوماتي أي منظومة علاقته بطلابه وزملائه».

من العصر الذهبي لبيت الحكمة
من جانبه حدثنا د. على إسبر عن جوانب عديدة وخاصة في فكر وعلوم د. اليافي قائلاً: «إن الدكتور اليافي هو آخر الموسوعيين عند العرب، فكان رجلاً يجمع ثقافة عالية المستوى ترجعنا إلى القرون الأولى للهجرة تحديداً في عصر الخليفة العباسي المأمون، حيث نجد علماء كلام وفلاسفة ومترجمين وكبار الشخصيات على مستوى العالم، لذا الدكتور اليافي يذكرنا بهذا العصر الذهبي عصر بيت الحكمة.
وأيضاً تجدر الإشارة إلى أنه كان بالدرجة الأولى معنياً باللغة العربية، وكانت رؤيته ثاقبة ومعمّقة، حيث وثق بهذه اللغة العظيمة التي برأيه تحتوي فضائل ضمنية ليست للغات انقرضت مثل اللغة اللاتينية واليونانية، وإن كانت اللغة العربية الآن تعاني صعوبات فهي ما زالت قادرة على التعبير في شتى المجالات والميادين، فمثلاً هي قادرة على التعبير العلمي الدقيق وقادرة على التعبير عن المفاهيم الفلسفية العالية المجردة، كذلك على مستوى الأدب والمسرح، وتحتاج إلى جهود بنيوية داخلية من أجل النهوض بها ورفعها إلى مستوى اللغات المتداولة من إنكليزية وألمانية وفرنسية، إضافة إلى أن الدكتور اليافي يعتقد أن اللغة العربية هي امتداد للغات قديمة عريقة أخذت منها اللغات اليونانية واللاتينية وهي اللغة الآرامية وليست اللغة الفينيقية. إذاً هذا الحب الكبير للغة العربية دفع اليافي لأن يكون معنياً بالتراث العربي، وقد ميّز داخل هذا التراث العربي بين عدة بُنى: أولاً البنية الفقهية، التي تؤول القرآن الكريم والحديث بشكل دقيق كنصوص مقدسة تأويلاً ظلامياً، وجد فيها خطراً على مستقبل الأمة العربية عموماً وكتاباته تدل على ذلك، لكن وجد في الموروث الصوفي أفقاً عظيماً للنهوض بالإسلام على نحو يدل على أن الإسلام يحتوي عناصر تطويره من الداخل، ومن هنا كان إعجابه بالشيخ محيي الدين ابن عربي. ثانياً: يضاف إلى ما ذكرته أعلاه أن الدكتور اليافي كان عالم اجتماع ومن أهم علماء الاجتماع في العالم العربي، فكان تقريباً مؤسساً لعلم السكان، إضافة إلى هذا الجانب الاجتماعي كان معنياً بالعلوم الفيزيائية، فهو أول من أدخل نظرية مبدأ عدم التعيّن أو الارتياب إلى الجامعات السورية. إذاً كان د. عبد الكريم اليافي بحراً زاخراً من العلوم والثقافة». وفي مداخلته في الندوة تحدث د. إسبر تحت عنوان: (عبد الكريم اليافي وقراءة في آرائه الفلسفية)، معتبراً أن اليافي لم يركز اهتمامه على الأبحاث الفلسفية البحتة ولم يعن بوضع نظريات في مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسة: علم الوجود ونظرية المعرفة، وعلم القيم، متابعاً: «إنه يتجه نحو اكتناه العالم لا بإقحام العقل فيه لفرض مقولاته عليه، بل لإحداث نوع أو ضرب من التمازج الوجداني معه، ذلك أن اليافي كان معولاً في فهمه للوجود على عينات ثاقبة واستبصارات عبقرية وانكشافات صوفية علاوة على فهمه العلمي العميق للعالم.

منارة في الأدب والنقد
على حين تحدث د. إسماعيل مروة عن الجوانب الشخصية والإنسانية والمعرفية للموسوعي اليافي قائلا: «د. اليافي شخص في اللغة لا يُبزّ، وفي الأدب لا يصل إليه أحد، وفي الدراسات والنقد لا يمكن أن يُجارى، وفي الشعر هو شاعر مهم. ومن المعيب جداً ألا نقف ونكرّم عبد الكريم اليافي، هذه القامة والقيّمة حتى في أموره الشخصية، فقد أجاد في التربية لابنته التي هي عازفة موسيقية، وصحيح أنها حملت شهادة الدكتوراه إلا أن الموسيقا هي المجال الأرحب لها». مضيفاً: إن الفيلسوف اليافي كان مجاملاً إلى أقصى الدرجات لمن كان يجامله، لكنه في نهاية هذا الأخذ والرد من المجاملات كان يضع الآخر في خانة صعبة جداً. وعن معرفته د. مروة بالموسوعي يضيف: «كنت ألتقي د. عبد الكريم اليافي لمتابعة رسائل الماجستير والدكتوراه، وهو من رواد الدراسات العليا في جامعة دمشق».
وفي مداخلة د. مروة وتحت عنوان: عبد الكريم اليافي أديباً وشاعراً، لقد أصدر د. عبد الكريم ديواناً شعرياً بعنوان «حصاد الظلال»، وعند مقارنته مع ديوان د. عمر فروخ «فجر وشفق»، ومن خلال سيرة الرجلين، نجد أن كليهما من أصحاب الدكتوراه في الفلسفة، وعندما يتحدث الفروخ عن نفسه نكتشف أن الدكتوراه ليست في مادة الفلسفة وإنما كلمة تضم الفلسفة والاجتماع والأدب وأشياء أخرى، ولكن عمر الفروخ من مدرسة ألمانية وكان عنيداً جداً، على حين اليافي من مدرسة فرنسية وقد كان أكثر ليناً ولطفاً. هذا وعند قراءة «حصاد الظلال» نجد شعراً عالياً في لغته وأوزانه وبحوره، فهو ليس شخصاً مجرباً للشعر، ونجد شاعراً يجيد الشعر فناً ونظماً، لكنه لا يمتلك ولا يقبل أن ينزل من مكانته الفكرية والفلسفية والمعرفية، ليجاري الشعراء في جنونهم وأدبهم وصورهم، وهو أمر طبيعي. وفي ديوان «حصاد الظلال» وجدت أن الشعر عقل والعلم سراج، بمعنى أننا لا نقف أمام شاعر، بقدر ما نقف أمام شخص يفلسف الأمور ويبنيها ليكون هادياً، مثل شعره عن الزواج نكون أمام محاكمة عقلية، وليس أمام شاعر يتعامل مع المرأة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن