قضايا وآراء

أبعاد قِيَمِيَّة وحضارية في السياسة الخارجية الروسيةٍ

| رزوق الغاوي

يبدو جلياً أن روسيا الاتحادية جادة في معالجة الواقع المسيحي الراهن في العالم عامةً وفي المنطقة العربية بصورة خاصة، حيث باتت الحالة الأرثوذوكسية «مستقيمة الرأي» تحتل جانباً من اهتمام الإدارة الروسية، في ضوء الدور الإنساني الذي يمكن أن تلعبه الكنيسة الأرثوذكسية في عملية السلم الوطني والتقدم الاجتماعي التي تحرص موسكو على إنجازهما في أكثر من مكان في العالم ولاسيما في المنطقة العربية.
وتسعى روسيا للعب دورها كقوة عظمى في معالجة القضايا الدولية وخاصة ما يتصل منها بالإستراتيجية الروسية السياسية والاقتصادية عامة، وبالحالة الاجتماعية في بعض بلدان العالم وفي المنطقة العربية تحديداً، وهي قضايا تشكل هاجساً حقيقياً للإدارة الروسية، انطلاقاً من أن الحالة الاجتماعية تلك تتطلب معالجة دقيقة لما لها من دور مهم في تخفيف حالة التوتر السائدة في العلاقات الدولية في العصر الراهن، من خلال اعتماد المنطق العلمي لتحقيق التقدم الاجتماعي، مع ما يتطلبه ذلك من الحد الأدنى من التوازن بين الأيديولوجيات اللاهوتية المتباينة في منطلقاتها وتوجهاتها، والمختلفة فيما بينها بفعل مؤثرات تحريضية مشبوهة تطفو على السطح بين الحين والآخر بغية تحقيق أهداف مشبوهة.
وترى موسكو أن ثمة مشكلة تعاني منها المسيحية في العالم من جراء السياسات الغربية ومفرزاتها العدوانية، وترى أيضاً أن التميز الثقافي والروحي الروسي يمنح روسيا دوراً نوعياً على الساحة الدولية حيث يزداد حضور البعد الثقافي في علاقات الدول وتحركاتها بعضها تجاه بعض، وهو أمر خلق اهتماماً لدى السياسة الخارجية الروسية بمسائل الأديان في العلاقات الدولية حيث سبق للخارجية الروسية أن اقترحت إنشاء مجلس استشاري للأديان العالمية تحت مظلة الأمم المتحدة يهدف للتعاطي مع الجانب الديني في حوار حضارات يتواصل من خلاله قادة الأديان العالمية مع المسؤولين الحكوميين لتبادل الرأي حول أجندة الأمم المتحدة الإنسانية والدينية.
على هذا الصعيد ومنذ العام 2013 ونتيجة لنشاط الكنيسة الروسية الأرثوذكسية باتت مشكلة المسيحيين في العالم موضع نقاش مستمر من قبل مجلس الأمن الدولي والمجلس الأوروبي ومنظمة اليونسكو، ما أدى في العام 2017 إلى تشكيل لجنة مشتركة بين الكنيسة الروسية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية، لبحث أوضاع المسيحيين في المنطقة العربية والناجمة عن الجرائم المروعة التي مارسها الإرهابيون بحقهم ولاسيما في سورية والعراق ومصر وفلسطين.
ففي وقت سابق قال سفير روسيا في المملكة المتحدة الكسندر ياكوفينكو: «إن حماية المسيحيين في الشرق الأوسط تأتي في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الروسية، لافتاً إلى جهود الحكومة الروسية والمنظمات المدنية في روسيا لتقديم الدعم والحماية للأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، ومطالباً الدول الأوروبية إلى مشاركة روسيا هذه الجهود بالنظر إلى الجذور المسيحية للحضارة الأوروبية».
وما قاله السفير ياكوفينكو، أثنى عليه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بتأكيد هذه المسؤولية بقوله: «إن المسيحيين الذين يتعرضون لعمليات قتل ونهب واختطاف ويتم طردهم من وطنهم يتطلعون إلى روسيا بحثاً عن الحماية»، فيما يكرر مسؤولون روس كثر التعبير عن هذه الرؤى بصور مختلفة.
يؤكد مسؤولون روس أن القيادة في موسكو «تؤمن بأن التنافس الدولي الراهن لا يقتصر على تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية التقليدية فحسب، بل يشمل الترويج لأنظمة قيمية ونماذج حضارية، ما يمنح الكنيسة الأرثوذكسية فرصة للتأثير، مع وجود قناعة راسخة عند النخب الروسية على اختلاف توجهاتها بأن روسيا تمثل أنموذجاً مثالياً للتعايش الديني والحضاري»، فيما رأى رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فيسفولود تشابلن أن «من شأن استخدام القوة العسكرية ضمان حماية الشعب السوري من الإرهابيين وتحقيق السلام والعدل».
خلال زيارته لدمشق في تشرين الثاني عام 2011 ذهب البطريرك الأرثوذكسي كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيا، معرباً عن قلقه تجاه الأزمة التي تعيشها المنطقة العربية وآثارها السلبية على الأقلية المسيحية فيها، واصفاً زيارته لسورية بأنها «تعبير عن إرادة اللـه» مؤكداً الأهمية الخاصة لسورية باعتبارها مهد المسيحية ومركز انطلاقها وانتشارها في العالم، وكونها مقر الكنيسة الأنطاكية التي تتمتع بمكانة خاصة في التاريخ المسيحي نظراً لأن أهميتها تأتي بعد كنيسة القدس، ولذلك فإن ما يتعرض له المسيحيون في سورية من جراء الأزمة ستكون له آثار خطيرة على الوجود المسيحي في المشرق بشكل عام.
وخلال لقائه في دمشق البطريرك يوحنا العاشر بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أكد البطريرك كيريل أن روسيا وعلى مر التاريخ وحين يكون هناك خطر يهدد المسيحيين في الشرق تشعر أن عليها مسؤولية مساعدتهم، وقال إن ما يتعرض له المسيحيون في المنطقة أسوأ مما تعرض له المسيحيون الأوائل في مرحلة الإمبراطورية الرومانية.
إن بيانات ورسائل الكنيسة الروسية، لم تقتصر على مجرد الإضاءة على معاناة الأقلية المسيحية وضرورة توفير الحماية لها بل عبرت أحياناً عن مواقف سياسية، كما ظهر في رسالة بعثها البطريرك كيريل للرئيس الأميركي باراك أوباما في أيلول 2013 أعرب فيها عن قلقه تجاه مؤشرات لنية واشنطن التدخل العسكري، محذراً من أن مثل هذا التدخل سيزيد من معاناة المدنيين ويمثل تهديداً وجودياً للأقلية المسيحية، وأضاف: «لدي يقين قوي بأن الدول التي تنتمي للحضارة المسيحية تتحمل مسؤولية خاصة لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط».
بشكل عام تبدو الإضاءة مهمة ومفيدة على مواقف ورؤى روسية سابقة، من أبرزها تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مناسبات مختلفة، عدم إمكانية مواجهة التحديات في العالم المعاصر من دون تعزيز القيم الأخلاقية، ما يستدعي المواءمة بين قضايا السياسة الخارجية وقيم الأديان العالمية من أجل ضمان محافظة النظام الدولي على تنوعه الثقافي والحضاري ضد مساعي فرض الثقافة الغربية، مع ضرورة المساهمة في الجهود الدولية في حوار الأديان ومكافحة التعصب وتعزيز الأسس الأخلاقية للعلاقات الدولية والمساهمة في حل القضايا الدولية المهمة، محذراً الغرب بأن التاريخ يسجل أن الحضارة التي تتخلى عن قيمها الأخلاقية تفقد قوتها الروحية.
لقد بدا نشاط البطريركية الأرثوذكسية الصربية متناغماً مع نشاط بطريركية موسكو وسائر روسيا الأرثوذكسية وبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، سواء في العمل على المحافظة على الوحدة الأرثوذكسية، أو في الحرص على المكون الأرثوذكسي في العالم عموماً وفي المنطقة العربية تحديداً، ولاشك في أن زيارة بطريرك صربيا أريناوس لسورية اندرجت في إطار ذاك النشاط، وحملت في طياتها مواقف ورؤى متطابقة تجاه مسيحيي المنطقة العربية عموماً، وخاصة السوريين منهم، في ضوء ما تعرضوا له من استهداف مشهود وموصوف، حيث أكد البطريرك الصربي أنه سيعمل على نقل حقيقة ما شاهده في سورية، موضحاً أن الشعب الصربي يعرف حجم الآلام التي يعانيها الشعب السوري لأنه مر بالمعاناة ذاتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن