قضايا وآراء

«جريح اسطنبول» وبداية العَد العكسي

| د. قحطان السيوفي

كتبت في أول شهر حزيران الماضي موضوعا بعنوان «أردوغان أمام خيارات صعبة أحلاها مر» مشيراً إلى أن السلطان أردوغان، يواجه مشاكل داخلية وخارجية، في الداخل تحديات اقتصادية، وانتكاسات في الانتخابات البلدية. وفي الخارج، يدعم الإرهاب في سورية ويقفز على الحبال الأميركية والروسية والأوروبية وحلف الناتو. أردوغان أمام خيارات صعبة وجاءت انتخابات اسطنبول الأخيرة لتشكل جرحا ثخينا في جسد أردوغان السياسي.
بعد إخفاق «الانقلاب» على نتائج انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول التي جرت في 31 آذار الماضي، تمكّن مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، من تجديد انتصاره في الانتخابات المعادة. هي الهزيمة الأثقل والأكثر تعبيراً للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، شخصياً. فهو الذي اتخذ قرار إعادة الانتخابات، ومارس ضغطاً قسرياً على اللجنة العليا للانتخابات لتقرّر إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى وحدها، ما اعتُبر يومها فضيحة قانونية كبيرة.
الفرق في نتائج انتخابات اسطنبول الأخيرة، لامس الـ800 ألف صوت، مع نسبة مشاركة عالية جداً، حيث اقترع 85 بالمئة من الناخبين، وهذا أمر أصاب السلطان أردوغان بجروح ثخينة لا يتوقّع أن يشفى منها بسهولة.
أردوغان لجأ إلى استخدام أسلحة «محرّمة» تركياً، أهمّها الاستنجاد بزعيم حزب «العمّال الكردستاني» المعتقل عبد اللـه أوجلان، فاستحصل منه على رسالة خطّية يدعو فيها أوجلان أنصاره إلى البقاء على الحياد، كذلك، استضاف أردوغان، الرئيس الجديد لـ«إقليم كردستان» العراق نيجرفان بارزاني، في إسطنبول، في زيارة لا مبرّر لها سوى ارتباطها بانتخابات إسطنبول.
أخفق أردوغان مرّتين. في المرّة الأولى في خطاب التخوين والتهويل بانتخابات 31 آذار، فخسر إسطنبول وأنقرة وأضنة ومرسين وأنطاليا وغيرها، وأجبر أردوغان القضاء على إصدار أمر بإعادة الانتخابات. وفي المرّة الثانية، كان الردّ الكبير في صندوق الاقتراع. الخطاب الفكري لأردوغان أخفق، لا الاستعطاف نجح، ولا التهديد نفع.
أردوغان كان ينظر إلى قادة الحزب الآخرين كأدوات لتحقيق طموحاته، حتى إذا تمرّد أحد عليه رماه خارجا. هكذا فعل مع عبد اللـه غول وداود أوغلو، مع هزيمة يلدريم، للمرّة الثانية في انتخابات اسطنبول، يخلو الحزب من أي شخصية ذات وزن. وهذا سيسهّل عمليات الانشقاق والتمرّد على أردوغان.
أردوغان قال «إذا تعثرنا في إسطنبول، فإننا نفقد مكانتنا في تركيا» وهذا حصل. هزيمة اسطنبول نتيجة طبيعية لأخطاء أردوغان الداخلية الكثيرة. في المقابل، فإن خطاب أكرم إمام أوغلو، بعد فوزه في انتخابات اسطنبول، أظهره كزعيم لتركيا قائلاً: «نريد أن نبدأ فصلا جديدا، حقبة جديدة الفائز في هذه الانتخابات ليس شخصاً واحدا أو حزبا واحدا أو جماعة واحدة أو فئة واحدة. فازت إسطنبول وتركيا كلها»، ظهر كشخصية سياسية مميّزة تتجاوز رئاسة بلدية إسطنبول. قال «كل إسطنبول وتركيا فازت في هذه الانتخابات» خرج بخطاب بعيد عن التشفي والحقد، مادّاً يد التعاون والمصالحة أعاد الاعتبار للعلمنة في تركيا في مواجهة حملة تديين النظام والدولة. وكأنه خطاب الزعيم الجديد والمرشح القوي للمعارضة لرئاسة الجمهورية بوجه أردوغان عام 2023.
الهزيمة المنكرة التي مُني بها حزب أردوغان أمام مرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو، في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول أدخلت تركيا مرحلة جديدة، وكانت جرحا بليغا في نظام أردوغان الاستبدادي الإرهابي، ويمكن القول إن العدّ العكسي لمرحلة أردوغان قد بدأ فعلاً، ليعلن بداية النهاية لعهد الديكتاتور الجريح تمنح نتيجة الانتخابات المعارضة السيطرة على مدينة يقطنها 15 مليون فرد، وتُعتبر القلب الاقتصادي لتركيا، وستحرم أردوغان وحاشيته الاستفادة والتصرّف بعشرات مليارات الدولارات من اقتصاد إسطنبول الذي يؤمّن حوالى 30 بالمئة من الناتج القومي التركي. بنى إمام أوغلو بنجاح ائتلافا واسعا ضد حزب العدالة والتنمية. هذا قد يفتح الباب أمام مزيد من المشكلات لرجل تركيا القوي، الذي داس في طريقه إلى السلطة بلا رحمة على كل شخص ساعده تقريبا.
رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليجدار أوغلو حضّ على إلغاء النظام الرئاسي، قائلاً: «دعونا نلغِ نظام الرجل الواحد ونبنِ نظاماً ديمقراطياً».
لا تستبعد بعض الأوساط السياسية أن يواجه أردوغان الكثير من المشاكل داخل حزبه «العدالة والتنمية»، بوجود معلومات عن وجود تحركات للرئيس السابق عبد اللـه غول، ورفاقه، بهدف تشكيل حزب سياسي قد ينضم إليه ما لا يقل عن 50 من أعضاء البرلمان عن «العدالة والتنمية»، وهو أمر، إن تحقق، فسيفضي إلى خسارة حزب أردوغان الأغلبية النيابية. أردوغان، الذي قاد الحملة الانتخابية بنفسه بعدما سخّر جميع إمكانات الدولة و95 في المئة من الإعلام الحكومي والخاص وكان لهذه الحملة المدعومة بلهجة الاستفزاز والتصعيد والتحريض، رد فعل سلبي على الشارع الذي أثبتت الاستطلاعات أنه بات يبتعد عن «العدالة والتنمية»، ويتوقع كثيرون للتحالف الذي فاز في اسطنبول أن يستمر ليتحول إلى تحالف إستراتيجي يحدّد مصير تركيا التي قد تكون كافية لإلحاق الهزيمة بأردوغان في أول انتخابات رئاسية في عام 2023. وستحلّ هذه الانتخابات قبل الذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية العلمانية التي سعى أردوغان لتشويهها.
ربما لا يصمد أردوغان حتى ذلك التاريخ، بسبب المشاكل داخل حزبه، وبسبب الأزمة الاقتصادية الخطيرة، وأيضاً مشاكل الدور التركي الداعم للإرهاب في سورية، والتوتر مع الولايات المتحدة الأميركية. المحللون يرون أن أردوغان الجريح لن يتقبّل الهزيمة، وإنه سيحاول الانتقام من معارضيه؛ وهو ما سيوتّر الشارع ويزيد من شعبية إمام أوغلو، الذي بات محطّ رهانات على أنه سيهزم أردوغان في انتخابات الرئاسة المقبلة. خسارة أردوغان في إسطنبول بداية تحول جذري في تركيا قال سنان أولجن، رئيس «إدام»، وهي مؤسسة بحثية مقرها في إسطنبول: «إنها أسوأ نكسة يواجهها». وأضاف: «ستشجع حزب الشعب الجمهوري والمعارضة في البرلمان التركي لأنهما الآن يسيطران بقوة ليس على إسطنبول فحسب، بل بشكل أساسي على جميع المدن الحضرية الكبرى في تركيا.
كان انتصار إمام أوغلو الباهر في جولة الإعادة نتيجة لسوء تقدير كبير من جانب أردوغان، الذي عانى في السنوات الأخيرة تآكل الدعم الذي يحظى به وسط توتر في العلاقات مع الغرب، وتدهور حال الاقتصاد، فضلا عن اتهامات بانتهاجه حكما استبداديا.
إن جرح اسطنبول سيضعف مواقف أردوغان الخارجية، وستظهره بمظهر الزعيم الذي بدأ يفقد قاعدته الشعبية، وسيتعامل الخارج معه على أنه بطة عرجاء أو رجل أثخنته الجروح، وستبقى بالتالي هذه الهزيمة بداية العد العكسي ترافقه كظلّه، إن بقي، حتى عام 2023.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن