قضايا وآراء

ما بعد اجتماع القدس

| عبد المنعم علي عيسى

في المعلن الذي نقلته المواقف والتصريحات التي وردت على ألسنة أطراف اللقاء الذي جرى في فندق «أورينت» في القدس الغربية يوم الثلاثاء الماضي فإن الاجتماع من حيث النتيجة كان قد أفضى إلى نصف نجاح ونصف فشل.
يأخذ هذا التقدير الأخير بالحسبان الصورة التي سجلتها التوقعات والآمال عشية انعقاد اللقاء سابق الذكر، والتي وصلت في حالتها الإسرائيلية حدود الانتشاء وإعلاء السقوف للدرجة التي يمكن أن تؤسس لمرحلة جديدة تجد تل أبيب نفسها فيها «بلا مخاطر» انطلاقاً من نسف الجسور القائمة على طريق طهران بيروت مروراً ببغداد ودمشق على اعتبار أن هذا الفعل الأخير كاف لضمان أمن الكيان في المرحلة المقبلة بعدما كبحت كامب ديفيد 1978 مع مصر وأوسلو 1993 مع الفلسطينيين ووادي عربة 1994 مع الأردن، جل المخاطر على الجبهتين الغربية والشرقية وإلى حد ما جبهة الداخل مع تفلت في هذي الأخيرة استدعى أربع حروب في غزة في غضون ست سنوات لا تزيد، كانت الرؤية الإسرائيلية فيها تقول إن منابعها كلها مستمدة من روافد تمر عبر هذا الطريق سابق الذكر.
لم تنطبق حسابات الحقل على حسابات البيدر تماماً، بل الأرجح أنها لم تنطبق عليها بالدرجة التي تطمئن «المزارع» الإسرائيلي لجهة سداد ديونه المستحقة، وهو ما يمكن أن ترصده تقديرات المحللين المقربين من دوائر القرار، إذ لطالما اعتبر هؤلاء أن مجرد انعقاد اللقاء الذي جمع القوتين الأعظم في القدس فإن ذاك أمر يكرس الدور الطاغي إقليمياً لدولة الاحتلال، ناهيك عن أن العديد من التقارير المحلية، أي الإسرائيلية، كانت قد رصدت خروجاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بحالة من «عدم الارتياح» في أعقاب جلسة اللقاء الأخيرة التي ترأسها، ومنها توجه إلى حضور معرض بعنوان «جيش دفاعنا» وفيه قال: «لقد وصلت للتو إلى هنا من حدث تاريخي يتمثل في عقد أول لقاء يجمع مستشاري الأمن القومي الإسرائيلي والروسي والأميركي، لم يحدث شيء من هذا القبيل سابقاً»، هذا التصريح يكرس رؤية المحللين السابقة الذكر، فالتركيز على الأثر المعنوي للحدث يخفي بشكل ما نوعاً من خيبة أمل جزئية كانت أم متسعة الحدود، وهو يرصد حالة سياسية فيها الكثير من سوء التقدير الحاصل ما قبل ولوج «الامتحان».
رجحت كل التصريحات الصادرة عن أطراف اللقاء أن ثمة توافقاً واضحة معالمه كان قد جرى حول وجوب تحقيق الاستقرار السياسي في سورية، وفي المقابل فإن خلافاً بدا واضحاً كانت قد سجلته المواقف فيما يخص الدور الإيراني في المنطقة عموماً وفي سورية على وجه الخصوص، والقلق الإسرائيلي جراء هذا الخلاف الأخير لا يتأتى من الموقف الروسي الذي اختصره مستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف بالقول: «يجب أخذ مصالح إيران في سورية بالحسبان»، ثم أضاف: «إن الضربات الجوية الإسرائيلية على سورية غير مرغوب فيها»، وإنما يتأتى أيضاً من الموقف الأميركي فواشنطن بدت حتى بعد حادثة إسقاط طائرة التجسس الأميركية المسيرة التي كان قد مضى عليها خمسة أيام أكثر إصراراً على دعوة طهران للتفاوض بل دون شروط مسبقة أيضاً.
كانت الآمال الإسرائيلية في ترجيح كفة «نصف النجاح» على نظيرتها قد تركزت على أن أطراف الاجتماع قد اتفقوا على ترحيل الملفات الخلافية إلى اللقاء المرتقب بين الرئيسين الأميركي والروسي، وهو اللقاء الذي جرى في مدينة أوساكا اليابانية على هامش قمة العشرين التي انعقدت فيها يومي 28 و29 من حزيران الماضي، إلا أن اللقاء هو الآخر لم يسجل تقدماً يذكر في الملفات التي أريد لها أن تتقدم، ولم يساهم ذلك اللقاء في جذب الروس «أكثر» نحو حلحلة «المعضلة» الإيرانية، ولا مقدراً للقاءات لاحقة أو في مرحلة قريبة أن تفعل، فحالة الاحتياج الروسية لطهران في سورية لا تزال قائمة إن لم تكن قد ازدادت في ضوء الإستراتيجية الروسية المعتمدة تجاه الأزمة السورية بشقيها العسكري والسياسي، وحالة الاحتياج سابقة الذكر نابعة من تحديات عديدة تواجهها وحدة وسيادة البلاد تلك المتمثلة بعقدة إدلب والتصعيد الحاصل في الشمال السوري عموماً منذ أواخر نيسان الماضي، ناهيك عن المخاطر التي يشكلها الوجود العسكري الأميركي في الشرق وكذا التمدد التركي في العديد من ثغور الشمال والشرق، وكل ذلك من شأنه أن يرسخ حالة الاحتياج الروسي، وكذا السوري، للوجود الإيراني.
حتى بمقياس البراغماتية السياسية المفرطة فإن «المقايضات» تبدو شبة مستحيلة، فما الثمن الذي يمكن لواشنطن أن تقدمه تجاه انزلاقة روسية في هكذا اتجاه؟ وللإجابة عن سؤال افتراضي من هذا النوع الأخير يمكن القول: إن «القارمة» التي يعلقها أي «سوبر ماركت» أعلى واجهته تحدد عادة مبيعاته أو الخدمات التي يمكن أن يقدمها، و«القارمة» التي جهدت واشنطن على إبرازها تقول: إن ما لديها من السلع إنما يتمثل في إمكان رفع العقوبات عن سورية ثم رفع الحظر العربي عن التقارب مع دمشق وربما رفع الحظر أيضاً عن الشركات التي يمكن أن تشارك في إعادة الإعمار، وكل تلك، على الرغم من شدة أهميتها، ليست أثماناً مغرية تجاه هواجس وحدة وسيادة واستقلال البلاد التي تشكل الهم الوطني رقم واحد، وهي تشكل أيضاً هاجساً روسياً مهماً لاعتبارات عديدة.
السردية السابقة استهدفت تحليل ما جرى وفق المعلن، والراجح أن هذا الأمر الأخير يشكل جزءاً كبيراً من الصورة الحقيقية، دون أن يعني ذلك عدم إمكان حدوث توافقات قد لا تكون معلنة، وفي مطلق الأحوال فإن مقبل الأحداث القريبة سوف تؤكد حدوث ذلك من عدمه، فالأحداث تنبئ عنها ظلالها كما يقال، وما شهدته الغرف المغلقة لن يطول الوقت حتى يبين آخر الضوء فيه، وإذا ما كان الروس قد نجحوا في اجتماع القدس فإن موجة التصعيد في إدلب والشمال السوري عموماً سوف تتوقف لمصلحة انعقاد مؤتمر دولي يعنى بالحل السياسي في سورية تحت سقف السيادة والاستقلال الكاملين على كامل الجغرافيا السورية، وإن لم ينجحوا فإن ذلك سوف يظهر سريعاً على جبهة الشمال وإدلب اللتين ستشهدان عندها تصعيداً غير مسبوق.
يبقى هناك أمر أخير مثير للقلق هو أن الاجتماع وفق ما أعلن لم يتطرق إلى ما يجري في الشرق السوري، وهو بكل المقاييس يرسم ملامح حالة انفصالية تتشكل معالمها تدريجياً دون أن تسجل مقاييس «الزلازل» الإقليمية أو الدولية تحذيراً بحدوث شيء من هذا النوع، على الرغم من أن العديد من هؤلاء مهددون بهزات ارتدادية ناجمة عن حدث مفترض كهذا، وربما ترك هذا الأمر لتوافقات أميركية تركية مستقبلية لم تستطع حتى الآن انضاج تفاهم قادر على وأد الخطر الجاثم، وآخر افتراقات هذه الحالة الأخيرة يمكن لحظها في البيان الصادر عن اجتماع وزير الدفاع التركي خلوصي آكار مع المبعوث الأميركي جيمس جيفري في بروكسل يوم 27 حزيران الماضي على هامش اجتماعات وزراء دفاع حلف الناتو، وهو البيان الذي رصد افتراقاً ربما هو أكبر مما كان علية عند قيام أنقرة باقتحام عفرين في شباط من العام الماضي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن