قضايا وآراء

«القرصنة البريطانية» بيدق في الحرب الناعمة الأميركية

| محمد العمري

من الواضح أن السلوك الأميركي التصعيدي تجاه إيران لم ولن يتوقف، وكان آخر فصل من فصوله والمتمثل بالحصار والضغط الاقتصادي، ذاك الذي تم افتتاحه في الساعات الأولى من صباح الخميس الفائت من قبل البحرية الملكية البريطانية، بالتعاون مع سلطات جبل طارق التابعة للمملكة المتحدة، وبتوجيه من واشنطن بحسب وزير الخارجية الإسباني، حيث تم توقيف واحتجاز ناقلة نفط عملاقة تحمل كميات كبيرة من النفط الخام، بذريعة توجهها إلى مصفاة بانياس في السواحل السورية. الناقلة العملاقة، التي تحمل اسم «غريس 1»، كانت ترفع علم بنما، وهي مملوكة لشركة «Grace Tankers Ltd» التي تتخذ من سنغافورة مركزاً لها.
هذا السلوك البريطاني وبتوجيه أميركي يعبر عن نية واشنطن ليس فقط لاحتجاز الباخرة أو استعراض عضلاتها وإمكانياتها، بل لجعل هذه الحادثة صندوق رسائل سياسية توجهه على مستويين:
الأول مباشر باتجاه سورية وإيران بتوقيت سياسي يحمل الكثير من الدلالات في مقدمتها الضغط على دمشق للقبول بالمقترح الأميركي فيما يتعلق باللجنة الدستورية أثناء زيارة للمبعوث الدولي إلى سورية غير بيدرسون التي بدأت أمس، حيث تسعى واشنطن إلى العودة لإحياء مسار جنيف بدلاً من أستانا ودمج الأخيرة مع المجموعة المصغرة حول سورية برئاسة أميركية، وفرض الميليشيات الانفصالية وفي مقدمتها «قوات سورية الديمقراطية – قسد» ممثلة بذراعها السياسية «مجلس سورية الديمقراطي – مسد» ضمن اللجنة الدستورية بشكل مستقل، فضلاً عن الأهداف الأخرى والمتعلقة بوقف تقدم الجيش السوري في منطقة خفض التصعيد الرابعة وزيادة الحصار المفروض على سورية حتى عام 2021، رغم التأكيدات الإيرانية المتكررة بأن الباخرة لم تكن متجهة نحو سورية وكان آخرها تأكيد مساعد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، والمتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي، أن ناقلة النفط الإيرانية المحتجزة قرب جبل طارق لم تكن متجهة إلى سورية.
أما الرسالة المباشرة الثانية هي باتجاه إيران وبخاصة بعد الصفعة المؤلمة التي وجهتها الأخيرة لواشنطن على إثر إسقاط الطائرة التجسسية قبالة مضيق «هرمز»، وبالتالي يسعى ترامب أيضاً للضغط على إيران إما للقبول بالجلوس إلى طاولة المباحثات أو وقف سقف تصريحاتها حتى انتهاء موسم الانتخابات الأميركية لكي لا يتعرض ترامب لصفعة مؤلمة تنهي حياته السياسية وتخرجه من البيت الأبيض بهزيمة نكراء. فضلاً عن الانزعاج الأميركي من توصل إيران مع الدول الأوروبية لصيغة تعاون مالي بعيداً عن العقوبات الأميركية، يتعلق بتبادل التجارة والنفط وبات يعرف بـ«نظام اينستكس»، وبالتالي دفع بريطانيا للقيام بهذا السلوك التصعيدي هدفه دك إسفين الخلاف بين الاتحاد الأوروبي ودوله مع طهران لاستهداف العلاقات المتردية بينهما وجلب أوروبا إلى الصف الأميركي.
كما أن واشنطن من خلال هذا السلوك التصعيدي تجاه إيران تبعث برسائل اطمئنان لدول الخليج وبخاصة السعودية والإمارات والكيان الإسرائيلي، مضمون هذه الرسالة بأن أميركا إن لم تقدم على عمل عسكري ضد إيران بعد التصعيد الأخير الذي شهده مضيق هرمز منذ تفجيرات الفجيرة فهذا لا يعني أن واشنطن ستوقف عداءها وصراعها مع طهران وإن كان بوسائل تكتيكية تعتمد على الحرب الناعمة.
كما أن الصين وروسيا هما مستهدفتان من هذا السلوك على المستوى غير مباشر، وقد يشكل في أحد جوانب هذا السلوك تعبيراً عن انزعاج مؤسسات الدولة العميقة في واشنطن للقاء ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين التي جرت مؤخراً في مدينة «أوساكا» اليابانية والخشية من تطور العلاقات بينهما بما يدفع ترامب لتقديم تنازلات في عدد من الملفات لروسيا يزعزع من هيمنة واشنطن على النظام الدولي ويقلص نفوذها.
على حين أن الصين التي تمهد لإطلاق أكبر مشروع اقتصادي دولي تحت مسمى «لحزام واحد طريق واحد» فهي قد تستعين ببعض الخطوط البحرية وواشنطن أرادت إيصال رسائل تهديدية تجاه الأخيرة قبل بدء المفاوضات التجارية بينهما نهاية الأسبوع الحالي.
تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون الذي وصف هذه الخطوة بأنها ممتازة يشير لمدى انخراط واشنطن في دفع بريطانيا للتصعيد تجاه سورية وإيران بشكل مخالف للقانون الدولي ومبادئه وبخاصة للمادة 38 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1980 والذي ينص:
1- تتمتع جميع السفن والطائرات في المضائق المشار إليها في المادة 37 بحق المرور العابر الذي لا يجوز أن يعاق.
2- المرور العابر هو أن تمارس وفقا لهذا الجزء حرية الملاحة والتحليق لغرض وحيد وهو العبور المتواصل السريع في المضيق بين جزء من أعالي البحار أو منطقة اقتصادية خالصة وجزء آخر من أعالي البحار أو منطقة اقتصادية خالصة. غير أن تطلب تواصل العبور وسرعته لا يمنع المرور خلال المضيق لغرض الدخول إلى دولة مشاطئة للمضيق أو مغادرتها أو العودة منها، مع مراعاة شروط الدخول إلى تلك الدولة.
استمرار بريطانيا باحتجاز الباخرة الإيرانية يقودنا نحو النقاط التالية:
أولاً: من الناحية الفقهية القانونية لا يمكن الاعتماد على مصطلحات مثل نشتبه أو نعتقد في احتجاز الباخرة، والجزم بالحكم دون معلومات موثقة لوجهة الباخرة مما يشير إلى الاعتماد على الاتهام السياسي لتبرير أي سلوك عدواني.
ثانياً: رغم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن سلوكها هذا يشير إلى:
– استمرار بريطانيا بسياسة التبعية للتوجهات الأميركية رغم الفوضى السياسية التي تعاني منها داخلياً.
– هذا السلوك يظهر مدى عمق الخلافات بين دول القارة الأوروبية في التعامل مع إيران، إضافة لقضايا دولية أخرى.
– حادثة احتجاز الباخرة دفعت إسبانيا للمطالبة باسترداد سيادتها على مضيق جبل طارق، مما ينبئ بتصعيد وخلاف أوروبي أوروبي تبحث عنه واشنطن لتعميق نفوذها داخل القارة وإعادة احتوائها.
بطبيعة الحال هذا قد يهدد المصالح البريطانية في مضيق هرمز إن قررت إيران المعاملة بالمثل كما هددت على لسان عدد من مسؤوليها من خلال حجز السفن البريطانية أو المتعاملة معها، مما سيؤدي نحو المزيد من التصعيد في المنطقة. كما أن السلوك البريطاني تجاه سورية ولو كانت سورية ذريعة، هو تعبير عن رغبة الأخيرة وربما بعض الدول الأوروبية للضغط على سورية والعودة للعب دور في مشهدها السياسي عجزت هذه الدول عن ترجمته عسكرياً أو لاستعادة جزء من دورها المتقلص في النظام الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن