قضايا وآراء

محاولة تركيا لاستنساخ «اتيلا» ثانية في الشمال

| عبد المنعم علي عيسى

نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعيد انعطافته الشهيرة نحو روسيا التي أرساها لقاؤه بنظيره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بطرسبورغ في التاسع من آب لعام 2016، في تحقيق العديد من المكاسب وهو يبدو اليوم متحفزاً أكثر لتحقيق المزيد منها، كان ذلك اللقاء الذي جرى بعد 25 يوماً من محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان التي سجلت فيها موسكو موقفاً داعماً لهذا الأخير بدرجة ربما لم تتكشف إلا قشورها السطحية حتى اليوم، قد أرسى تفاهماً تركياً روسياً ثقيل الوطأة على مسار الأزمة السورية بشقيها السياسي والعسكري، وربما كان ذلك انعطافياً على امتداد المنطقة برمتها، والراجح هو أن تلك الوطأة ستزداد ضراوة بعيد إعلان وزارة الدفاع الروسية يوم الجمعة الماضي 12 تموز عن تسليم الدفعة الأولى من صواريخ «إس400» لتركيا.
كانت توافقات بطرسبورغ تفترض بأن أردوغان كان هو من يجب أن يبرز حسن النيّات أولاً، إلا أن ذلك لم يمنع موسكو من منحه صكوك ثقة مسبقة الأمر الذي مثله الضوء الأخضر الروسي لعملية «درع الفرات» صيف العام 2016 التي اختار أردوغان موعداً لانطلاقتها، لم يكن مصادفة بالتأكيد، تزامن مع الذكرى الخمسمئة لمعركة مرج دابق في 24 آب 1516، وبموجب تلك العملية أضحت مناطق واسعة في ريف حلب الشمالي تحت النفوذ التركي تماماً، وبعد أربعة أشهر من تلك العملية اضطر أردوغان تحت الضغط إلى ترك الفصائل المعارضة المسلحة في حلب لمصيرها الذي لقيته في 22 كانون أول من عام 2016 الشهر الذي شهد بسط الجيش السوري كامل سيطرته على مدينة حلب، كان ذلك نجاحاً إستراتيجياً كبيراً لدمشق ربما لا يعادله على الإطلاق أي نجاح آخر على الرغم من تراكم المزيد من هذي الأخيرة في المراحل اللاحقة، وفيما بعد هذا الحدث الأخير كانت هناك توافقات أستانا بدءاً من تشرين الأول 2017 التي أثمرت بدورها إلى نظيرة لها في سوتشي كانت ثمرتها الأكثر نضوجاً هي اتفاق أيلول 2018 الخاص بإدلب الذي لم يعد قائماً بالتأكيد منذ أواخر نيسان الماضي بل ربما قد جرف هذا التاريخ الأخير معه كل المسارات السابقة، أما المحاولات الحثيثة الجارية مؤخراً لإحيائها فهي وإن نجحت فإنها ستأتي بمسارات أخرى قد لا تتشابه بالكثير معها.
ما بين أستانا وسوتشي كانت هناك توسعة جديدة لمناطق «درع الفرات» عبر عملية «غصن الزيتون» التي أدت في نهايتها إلى ضم عفرين ومحيطها في شباط 2018 إلى مناطق النفوذ التركي السابقة، وهذي الأخيرة خضعت لاعتبارين اثنين أولاهما «تفهم» روسي لموجبات الأمن القومي التركي التي سعت إلى قطع الطريق على الأكراد من الوصول إلى شاطئ المتوسط عند قرية «السمرا» السورية أقصى شمال اللاذقية، وثانيهما «حرقة» روسية تجاه إمكان إدخال منظومة «إس400» إلى فضاءات الناتو التي تبدي موسكو قلقاً تجاه تمددها نحوها وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 9 تموز الجاري حين قال: «اللبنة العسكرية للناتو اقتربت من حدودنا والوضع مختلف عما كان الأمر عليه العام 2011».
خرجت إلى العلن قبل أيام تسريبات كانت مقصوده تقول: إن أنقرة قد أبلغت شخصيات في «الائتلاف السوري المعارض» بأنها اليوم في طور إنضاج ترتيبات سياسية وعسكرية تهدف إلى ضم إدلب إلى مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، والمصادر ذاتها تقول: إن أنقرة قالت: إن مسألة «هيئة تحرير الشام» سوف تحل بدءاً من الآن وحتى أواخر هذا العام.
هذه التسريبات تعادل تماماً محاولة استنساخ تركيّة لعملية «اتيلا» التي نفذتها في قبرص العام 1974 والتي كرست أمراً واقعاً في الشمال القبرصي تحت النفوذ التركي لا يزال قائماً حتى اليوم على الرغم من أن أي من دول العالم لا تعترف به.
المشكلة أن هناك العديد من التحركات السياسية وكذا العسكرية الجارية على الأرض تدعم سعياً تركيا في الاتجاه الذي ترصده هذي التسريبات الأخيرة، فالمشهد الذي يعيشه الشمال السوري اليوم يوحي بجهد تركي مدعوم أميركياً وهو يحظى بتمويل قطري أيضاً نحو تشكيل المزيد من الكيانات العسكرية الصغيرة، بل محاولة هيكلتها على هيئة جيوش نظامية في محاولة لاستعادة المناخات التي عاشتها المنطقة بين عامي 2013-2016.
هذا المسعى التركي خرج إلى العلن منذ أواخر أيار الماضي عند الإعلان عن تشكيل «سرايا المقاومة الشعبية» التي ألحقت قيادتها بـ«مجلس شورى الشمال» وفي أقل من شهرين تولد عن هذا الأخير 13 سرية عسكرية مضافاً إليها 6 سرايا تم تشكيلها بالتوافق مع مجلس شورى العشائر، وكانعكاس سياسي لها جرى الكشف عن تأسيس 8 مجالس مدنية فرعية ربما ستتبع إدارتها لاحقاً بحاكم لواء إسكندرون التركي الذي تطلق عليه أنقرة اسم مقاطعة هاتاي.
فيما يخص قول أنقرة إن وضع «هيئة تحرير الشام» سوف يحل قريباً فإنه تمكن ملاحظة أمرين في هذا السياق أولاهما الخشية التي أبداها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإيطالي جوزيبي كونتي يوم 4 تموز الجاري في روما وفيها عبر عن مخاوفه من تسلل الإرهابيين من إدلب إلى ليبيا لتغذية الصراع الدائر هناك، وتلك خشية لا ترصد سوى نصف المشهد في ظل تقارير تفيد بأن عمليات الانتقال التي أشار إليها بوتين تشمل فقط قيادات ذات خبرة عسكرية ولها وضع عقائدي محدد، أما ثانيهما الذي يمثل نصف المشهد الآخر فهو يتمثل في دفع هياكل «جبهة النصرة» نحو مزيد من الممارسات التي تضمن لها البقاء والاستمرار في ظل ضغوط الواقعين الميداني والسياسي، سواء على الصعيد الإيديولوجي الذي لم تكن خطوة إعلان جبهة النصرة عن فكاكها مع القاعدة سوى الخطوة الأولى فيه، أم على صعيد الميدان والملاحظ في هذا السياق هو أن النصرة كانت في خلفية المشهد ولم تكن في صدارته في الهجوم الذي شنته تنظيمات لا تزال تعلن عن ارتباطها بالقاعدة مثل «حراس الدين» و«الحزب التركستاني» على ريف اللاذقية الشمالي الشرقي بدءاً من 7 تموز الجاري، هذا التراجع للنصرة إلى الصفوف الخلفية هو محاولة تركية لإعادة تأهيل هذي الأخيرة غربياً أو هي محاولة لنسف الصورة الراسخة لدى الغرب عنها، وخصوصاً أن هناك حالة تلاقي مصالح قائمة ما بين الغرب من جهة وكل من أنقرة والنصرة من جهة أخرى، وهي تتمثل في أن كلا الطرفين ماض نحو منع الجيش السوري من بسط كامل سيادته على الجغرافيا التي خرجت عن سيطرته.
هذا المشروع التركي قائم وربما سيزداد شراسة في المرحلة المقبلة مستمداً آماله من أمرين اثنين أولاهما هو أن أردوغان قد نجح في تسويق وهم قدرته على زعزعة استقرار الناتو لدى الروس الأمر الذي بدا أولوية لدى موسكو على الرغم من الخلافات التركية معها في العديد من الملفات، وهو ما أفضى إلى قيام تفاهمات ظرفية خادمة للطرفين، وثانيهما أن هذا المشروع الخارجي بات يمثل لأردوغان ربما رافعة وحيدة قادرة على إنقاذ وضعه الداخلي الذي يغوص في مستنقع من تردي الاقتصاد التي التقطها مناوئوه لاستثمارها سياسياً وهو دون أدنى شك ينظر إلى إعلان وزير الاقتصاد السابق علي باباجان استقالته من حزب العدالة في 7 تموز على أنها المسمار الأول الذي سيحفز مسامير أخرى تدق في نعش نظامه، ما يمكن أن يتمظهر قريباً في ولادة حزب جديد، وربما حزبان، ثانيهما بزعامة أحمد داوود أوغلو إن لم يستطع الطرفان الوصول إلى تفاهمات تدفع إلى اندماجهما، في حزب واحد، وهو أمر يبدو صعباً في ظل وجود إصرار لدى الأول، أي باباجان، على أن يكون الحزب وسطياً يولي الشأن الاقتصادي أولوية كبرى في قراءة تلحظ سر فوز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو ببلدية إسطنبول مؤخراً، على حين يصر الثاني، أي أوغلو، على إنتاج حزب إسلامي محافظ يأخذ بالحسبان عثرات الرحم السابق الذي يشكله حزب العدالة والتنمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن