ثقافة وفن

الثقافة ومعركة الصراع والسيطرة على العقول

| هناء أبو اسعد

الحرب الباردة أو الحرب الثقافية، هي معركة الصراع في السيطرة على عقول البشر، تلك الحرب الباردة التي تقوم بنشاط سري جداً، هي حرب ناعمة ساكنة قد لا يشعر بها الكثيرون فهي تعمل كالدبيب في صمت من دون أن ننتبه لها، قد تكون في أي مكان نكون فيه «مدارس – مستشفيات – دوائر حكومية – دور أيتام – جامعات – معاهد – وحتى الأسواق، بدعوى حرية التعبير، وهدفها الوحيد «الاستيلاء على عقول البشر» من خلال الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات ومعارض الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية والتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل.. إلخ.
حرب على المقدسات واللغة والتراث، جنودها أدباء ومفكرون وترسانتها كتب ومواقع تواصل وقنوات فضائية.
الحرب الثقافية، تستخدم الثقافة لتغيير أذهان البشر، هي حرب لا تحتاج إلى عتاد حربي من مدافع وطائرات وقنابل القصف والرشاشات، هي حرب أشد نعومة وأشد فتكاً ودماراً، هي حرب على المقدسات والعادات والتقاليد واللغة والتراث. جنودها ليسوا ضباطاً عسكريين وقياديين يحملون رتبًا عسكرية ونياشين، فهم كتاب ومثقفون وأدباء وسياسيون سابقون وعلماء دين وفنانون، ممن يمتلكون شعبية عالية بين الناس.
ترسانتها ليست مدافع وصواريخ وأسلحة بيولوجية وكيماوية، بل كتب وصحف ومجلات وإذاعات وقنوات فضائية ودور نشر وترجمة وندوات ومحاضرات ومؤتمرات وجامعات ومعاهد ومدارس، ومهرجانات وجوائز فنية وثقافية للترويج لمصطلحات رنانة كــ «الحرية الفكرية – حرية التعبير- حرية الرأي والإصلاح الاقتصادي… وغيرها» وهي مبادئ عامة يصعب الاختلاف بشأنها لأنها تبدو بشكل كلي وكأنها في مصلحة البشرية، بيد أن الحقيقة على النقيض من ذلك تماماَ. والهدف من هذه المصطلحات أو بالأحرى من هذه الحرب ليس احتلال الأرض وإنما احتلال العقل وتشويه كل ما هو جميل لديه وتهدف إلى استبدال ثقافتنا بثقافات أخرى.
باسم الحرية، يكرس عدونا موارد واسعة من أجل برنامجه السري للدعاية الثقافية «كما يدعي» ويشدد على الحرية الثقافية وحرية الرأي والتعبير «كما يدعي»، يحاول دائماً اختراق ثقافة البلدان التي يريد السيطرة عليها من خلال إنشاء جمعيات ثقافية وتمويلها بطرق مباشرة وغير مباشرة وتجنيد النخب الثقافية والعلمية للسيطرة على عقولهم وتوجيهها، والهدف الأول له هو طمس هويتنا وعادتنا وتقاليدنا وتراثنا ومعتقداتنا، وتشويه صورة ديننا وانتصاراتنا وأبطالنا وأمجادنا وأجدادنا وتدمير آثارنا وتاريخنا بأكمله وتشويه صورته.
والهدف الثاني هو استبدال ثقافتنا بكل ما هو متخلف ليسهل عليهم السيطرة علينا وتقسيمنا، وهذا ما نراه من بعض التابعين لهم بأن تمسكنا بماضينا وحضارتنا وقيمنا وثقافتنا هو سبب تخلفنا، ينادون بالحرية وهم لا يفهمون ما معناها.

تمويلات ضخمة لتغيير الحقائق
للغزو الفكري وللحرب الثقافية مجالات عديدة ومتنوعة منها التعليمية والتربوية والإعلامية والفنية وغيرها.
وخير شاهد عليها الإعلام الموجه الإخباري والفني، ووسائل التواصل، هؤلاء هم أخطر أنواع الأسلحة الفتاكة، وقنوات أخرى فنية تعتمد على التعري وإثارة الغرائز والعلاقات الأسرية التي لا تمت إلى مجتمعنا بأي صلة «المسلسلات المدبلجة».
العدو يتدخل في مراحل الإعداد لأفلام وأعمال فنية ومسرحية حربية بالحذف والتغيير والإضافة وفق إستراتيجية محددة في أذهانهم قائمة على زرع أفكار الكراهية والحقد بين مكونات الشعب السوري، وهذا ما رأيناه خلال سنوات الحرب السابقة من تزوير للحقائق واللعب في الإخراج والمكياج وغيره، وذلك بالاستعانة بفنيين ومخرجين عالميين مأجورين، حتى يكاد المشاهد يصدق أن الذي يراه حقيقة وليس صناعة سينمائية وخدعة.
أما في مجال التربية والتعليم في المدارس والجامعات، فالحرب الثقافية هنا هي الأخطر لأنها تتعامل مع أطفال وناشئة وشباب، تأتي هذه الحرب أو الغزو الثقافي تحت شعارات خداعة زائفة براقة ينخدع بها الكثيرون، تحمل شعارات لا يُختلف على أنها في مصلحة البشرية، غطاء هذه الحرب هي العلم والمعرفة والتمدن والحرية الفكرية والديمقراطية والعدالة والإصلاح الاقتصادي وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، وهو ما يمكن أن نسميه وضع السم في العسل.
ما من شك بأن ليس هناك على الأمة من خطر أقوى من أن تجد تاريخها الفكري والثقافي والفلسفي والأخلاقي يتعرض لأكبر خطر في الوجود، فما نشهده اليوم هو أن أنظمة ديمقراطية تنادي بالحرية وحقوق الإنسان، وبالمقابل تتولى تهديد البشرية.
فمن هؤلاء الذين أتوا إلينا من كل أصقاع الكون ليروا أن ثقافتنا شر خطر، ويقومون بمعاقبتها، ومعاقبتنا؟ ومن هؤلاء الذين تحوَّلوا إلى قوَّة عظمى، فصاروا يمثِّلون الحق والعدالة؟

مهد الحضارات وبوابة إلى التاريخ
نحن في هذه المرحلة بحاجة إلى من يبني العقول وليس إلى من يدمرها، لتبقى أوغاريت، وتدمر، ومسرح بصرى الأثري، وقلعة حلب وقصر البنات في الرقة وقلعة صلاح الدين والحصن وغيرها، وليبقى أبو العلاء المعري وأبو فراس الحمداني وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وفارس الخوري وهاني الراهب وفاتح المدرس وسعد اللـه ونوس ونزار قباني وألفت الإدلبي وكوليت خوري وغادة السمان، وسليمان الأحمد ومحمد الماغوط وممدوح عدوان وغيرهم.
سورية هي سلطان باشا الأطرش «السويداء»، والشيخ صالح العلي «الساحل السوري»، وإبراهيم هنانو» حلب، وحسن الخراط «دمشق»، والشيخ إسماعيل باشا الرفاعي «حوران» والشيخ بدر الدين الحسيني، ويوسف العظمة.
سورية تحتاج إلى أرواح هؤلاء القادة، نحن بحاجة إلى ترسيخ ثقافة الأدب والثقافة الوطنية والقومية وثقافة المقاومة وثقافة الانتصار على الأعداء والانتماء إلى الوطن، ، لا ثقافة التفرقة والدمار، والخنوع والاستسلام. ففي حرب تشرين التحريرية شهدنا شعر المقاومة ورواية الحرب وقصص البطولات التي سطّرها الجيشان المصري والسوري، وأَقيمت مئات المعارض المحلية والدولية لكشف طبيعة العدوان على شعبنا وشعوب المنطقة التي رسَّخت أساسات وقواعد الثقافة الوطنية في سورية ومصر.
فالثقافة مثلها مثل علم الفلسفة والمنطق فهي تدخل في شيء وهي صفة تستخدم في جميع الميادين، في الحرب هناك نوع من الثقافة – ثقافة التدمير والانتماء إلى الأعداء، وآخر ثقافة المقاومة والانتصار على الأعداء والانتماء إلى الوطن، ، ونحن اخترنا المقاومة والانتصار لتبقى سورية مهد الحضارات والثقافات. سورية أم الحضارات وهي التي أوقفت حلم الصهيونية بتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد، ونشر الفوضى، وستبقى سورية مهد الحضارات وبوابة إلى التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن