من دفتر الوطن

سفر برلك… مجدداً

حسن م. يوسف :

تجربتي في الكتابة خاصة بي وخيارات حياتي لا تصلح إلا لي، فاعرف نفسك واصنع تجربتك وأسلوبك. صحيح أنه من الضروري أن تعرف تجارب الآخرين سواء في الكتابة أم في الحياة، لكن هدف معرفتك لها، لا ينبغي أن يكون تقليدها، بل مجرد الاستئناس بها، لتعرف كيف تضيف إليها وتتجنب تكرارها، فالتكرار للمبدع موت.
أعتقد أن كل من حضروا دروسي في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكل من شاركوا في ورشات السيناريو التي أشرفت عليها في كل من سورية ولبنان، يعرفون هذه الفكرة، فهي تحتل مكانة مركزية في تجربتي وحياتي، لذا أعيد صياغتها وطرحها في بداية كل تجربة جديدة، دون ملل.
وانطلاقاً من هذه القناعة لا أسمح لنفسي بإطلاق أحكام قاطعة، بل أحاول من خلال القراءة والتأمل أن أفهم منطق الآخر الداخلي، والأوضاع التي أسهمت في صياغة مواقفه وأفكاره، بحيث أستطيع فهم قضاياه والتوصل إلى استنتاجات نهائية أو شبه نهائية حولها. لكن «هجرة السوريين» باتت تربكني. فهي على العكس من جل القضايا التي فكرت بها مؤخراً، تزداد خصوصية وغموضاً، في رأسي، كلما تمعنت فيها أكثر وقرأت عنها أكثر!
أول ما استوقفني في هذه القضية هو أن تكاليف رحلة اللجوء للفرد الواحد، بحسب الخبراء، تتراوح بين 7000 و12000 دولار، وقد ينخفض هذا المبلغ إلى النصف أو الربع لتنخفض معه ضمانات السلامة أيضاً، لكنه، في جميع الأحوال، يبقى مبلغاً هائلاً لمعظم السوريين!
الأذكياء الميسورون يدرسون خطواتهم قبل تنفيذها، فهم يتعاملون مع المهربين الموثوقين، ممن سبق لمعارفهم أن جربوهم، وبعضهم لا يسلمون المال للمهرب مسبقاً، بل يقومون بإيداعه لدى أحد مكاتب تحويل النقود، ويحتفظون برقم الإحالة السري، ولا يعطونه للمهرب إلا بعد الوصول.
من اليونان، يزحف الفقراء براً عبر صربيا، أما الميسورون فيشترون جوازات سفر مزوّرة من المهربين، لمتابعة سفرهم جواً إلى البلد الأوروبي الذي يناسب أشكالهم ومهاراتهم اللغوية! وفي هذه المرحلة أيضاً قد يقع «المهاجر» ضحية المحتالين.
صحيح أن «الهجرة» ليست شيئاً جديداً على السوريين فقد انخفض عدد سكان دمشق خلال السفر برلك إلى النصف، وقد أثبتت التنقيبات الأثرية أن سفن الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا قد وصلت إلى أميركا قبل بدء التاريخ الميلادي. فقد تم العثور على آثار ونقوش فينيقية في أنحاء مختلفة من القارة الأميركية، كما تم اكتشاف عملة قرطاجية على جزر الآزور في المحيط الأطلسي.
وقد عبر شاعر بلاد الشام الكبير سعيد عقل عن حب أبناء هذه المنطقة للمغامرة واقتحام المجهول إذ قال: «أمويون فإن ضقت بهم / ألحقوا الدنيا ببستان هشام».
كثير من «المهاجرين» يبررون مغامرتهم بأن احتمال الموت وارد هنا كما هو وارد في السفر بحراً، وأن من وصلوا إلى أوروبا أكثر من الذين ماتوا على الطريق. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. في يوم السبت الماضي تداولت وكالات الأنباء، نقلاً عن خفر السواحل اليوناني أن 34 لاجئاً سورياً، نصفهم تقريباً من الرضع والأطفال، قد غرقوا قبالة إحدى الجزر اليونانية بعد انقلاب قاربهم. وقد ذكرتني هذه المأساة المريعة بلسان حال كتبه الصديق الدكتور جعفر محسن الخير على صفحته في الفيس بوك قال فيه: الوالد الذي يغامر بحياته للوصول إلى أوروبا ليأتي بعائلته إليها بطل وإن فقد حياته، فهو بنظري شهيد، أما من يأخذ أولاده لركوب المخاطر كمن يصعد على كتفي طفله إذا أتت «الطوفة». فما رأيكم؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن