ثقافة وفن

مطرب الحب مات بالقلب…المئوية الأولى على ولادة ملك العود وموسيقار الأزمان فريد الأطرش

وائل العدس

غنى فأبدع ولحن فأمتع فطربت له الملايين، بضربة إصبع على العود تتجمع كل الآمال، تتوحد لتنصت إلى الضارب، تبدأ عملية العزف على عوده، كلمات قام هو بتلحينها، آذان مصغية، صوت عذب، يفتح فاه ليخرج صوته الذي كان ومازال يطرب العديد من المستمعين.
«الفن ينقرض.. ولم يعوضنا اللـه بفنانين حقيقيين بعد زوالهم»، جملة تجسدت حروفها على مر الأزمنة المتعاقبة، بعدما قالها الفنان السوري فريد الأطرش في لقاء تلفزيوني مصور نادر عام 1966.
اجتمعت فيه العديد من المواهب قلما اجتمعت لفنان آخر، فكان بارعاً في التمثيل والغناء والعزف والتلحين، فاستحق عن جدارة لقب ملك العود وموسيقار الأزمان.
وقد صدق محمد عبد الوهاب حين قال عنه: «وفي كل هذه المجالس هناك الضحك والنكتة والسخرية والبهجة والسرور، ومع ذلك كنا نراه في أغانيه وخصوصاً الطويلة منها تغلب عليها سمة الحزن، وخصوصاً في طريقة إخراج صوته أو حتى في الجملة اللحنية، ولعل السبب في ذلك أنه كان يحتاج إلى الأسرة التي ينعم بها، وإلى الحيوية التي تنكرت له».
ولا يمكن أن تمر ذكراه من دون وقفة تأمل في حياة هذا الموسيقار العبقري الذي استطاع أن يقف شامخاً على قمة الأغنية العربية حتى يومنا.

إبداع ومعاناة

لم تكن مقولة «الإبداع يولد من رحم المعاناة» إلا تجسيداً حقيقياً ومعبراً عن حياته الشاقة التي عاشها منذ طفولته، تحمل خلالها الأمير الصغير ألواناً شتى من المعاناة والحرمان.
ولد فريد الأطرش في محافظة السويداء عام 1915، وهو الشقيق الأكبر للمطربة آمال الأطرش التي اشتهرت فنياً فيما بعد باسم أسمهان.
عانى حرمان رؤية والده ومن اضطراره إلى التنقل والسفر منذ طفولته، من سورية إلى القاهرة مع والدته هرباً من الفرنسيين المعتزمين اعتقاله واعتقال عائلته انتقاماً لوطنية والده فهد الأطرش.
اضطرت والدتهم الأميرة علياء المنذر للهرب ليستقر بهم جميعاً المقام في النهاية بغرفة صغيرة بحي الظاهر بالقاهرة، فالتحق بالقسم المجاني بإحدى المدارس الأولية، ولكنه سرعان ما ترك دراسته تحت ضغط الظروف المعيشية، ليضطر للعمل في أكثر من مهنة متواضعة لمساعدة أسرته الصغيرة.
اتخذت الأم من صوتها الشجي الحنون وهوايتها بعزف العود وسيلة للترفيه عن نفسها وعن أولادها، فتأثر فريد بصوتها وعزفها، وحفظ عنها كل ما كانت تشدو به، وعندما شعرت الأم بموهبة ولدها قررت إلحاقه بمعهد الموسيقى عن طريق جارهم الموسيقار اللبناني فريد غصن الذي كان له أثر كبير في بدايات فريد الأطرش.
تتلمذ في معهد الموسيقى على أيدى الموسيقار رياض السنباطي، وفي تلك الأثناء التحق بالعمل في العديد من الفرق الموسيقية المتواضعة، حتى التحق بفرقة بديعة مصابني التي كانت بمثابة مدرسة فنية يتخرج منها كبار النجوم.
تقدم لاختبارات الإذاعة المصرية، ولكنه أصيب بنزلة برد شديدة، حالت دون نجاحه، ورغم الحزن الشديد، لم ييأس وتقدم للاختبارات مرة أخرى عن طريق صديقه مدحت عاصم مستشار الإذاعة الذي أعاد اختباره أمام اللجنة نفسها فأدهشهم بأدائه وتعاقدت معه الإذاعة على العزف والغناء مرتين أسبوعياً.
كان فريد على موعد مع السعادة التي غابت عن حياته طويلاً، ليظهر صوته لأول مرة من خلال ميكروفون الإذاعة المصرية بأغنية «يا ريتني طير» التي لحنها الموسيقار يحيى اللبابيدي.
لفتت موهبته أسماع نجوم الغناء في مصر والوطن العربي، وزادت شهرته كثيراً، فقرر صناع السينما استثمار نجاحاته من خلال قيامه ببطولة أول أفلامه «انتصار الشباب» عام 1941 مع شقيقته أسمهان، وكان له حظ كبير من اسم الفيلم الذي كان بحق انتصاراً للشباب الذي عانى طويلاً حتى يظهر مواهبه للجمهور.
توالت نجاحاته السينمائية فقدم للفن السابع 31 فيلماً مع أشهر نجوم الفن، ومن أهم تلك الأفلام، «أحلام الشباب»، و«شهر العسل»، و«جمال ودلال»، و«ما قدرش»، و«لحن الخلود»، و«الخروج من الجنة»، و«حكاية العمر»، و«الحب الكبير»، ليختتم مشواره السينمائي عام 1975 بفيلم «نغم في حياتي» مع ميرفت أمين.
كان بألحانه حائط الصد والمدافع الأهم عن الموسيقى العربية، فقد أثرى المكتبة الموسيقية بأكثر من خمسمئة لحن وأغنية، تعاون خلالها مع كبار المطربين والمطربات، ومن أشهر الأغاني التي قدمها بصوته «زمان يا حب»، و«فوق غصنك يا لمونة»، و«زي النهارده»، و«بقى عايز تنساني»، و«أول همسة»، و«يا قلبي كفاية دق»، و«يا سلام على حبي وحبك»، و«يا حبايبي يا حلوين»، و«يا جميل يا جميل»، و«يا أبو ضحكة جنان»، كما أبدع في القصائد الغنائية ومن أشهرها، «لا وعينيكِ»، و«أضنيتني بالهجر».
كما قدم عدداً من أهم ألحانه لنجوم الطرب مثل أسمهان، وسعاد محمد، وصباح، ووردة الجزائرية، وفايزة أحمد، ومحرم فؤاد.
ورغم الشجن والحزن الذي لازمه لفترات طويلة في حياته، تميزت ألحانه بالمرح الشديد، وهو ما ظهر في ألحانه للشحرورة صباح ومنها أغاني «يا دلع يا دلع»، و«حبيبة أمها»، و«أكلك منين يا بطة»، و«زنوبة».
كان فريد الأطرش من فرط أشجانه وآلامه الحياتية التي مر بها منذ صغره يقول إن الآهات في الغناء تجمع دائماً بين الطرب والألم معاً، فلم تكف آهاته إلا برحيله عن دنيانا يوم 26 كانون الأول عام 1974 إثر أزمة قلبية شديدة، جعلت جمهوره الكبير في حسرة أشد، ولسان حالهم يقول «مطرب الحب.. مات بالقلب».
إلى أوروبا

عام 1937، تلقى فريد عرضين من الإذاعة البريطانية لتسجيل بعض الأسطوانات في لندن، فكانت أول رحلة له إلى أوروبا، وعلم بعد ذلك أن التسجيل سيكون في أحد استوديوهات باريس، فذهب إلى العنوان، وعند دخوله وجد فرقة موسيقية كبيرة العدد، فألقى التحية عليهم إلا أنهم لم يعيروه اهتماماً، إلا بعد أن بدأت أنامله تعزف على أوتار عوده لتخرج أنغام بديعة أجبرت الجميع على الإنصات والاستماع، وبعدها تقدم إليه المايسترو واعتذر لسلوكهم معللاً أن مؤلفي الموسيقى شيوخ يكتسي شعرهم باللون الأبيض ولم نشاهد أبداً مؤلفاً موسيقياً في مثل سنك.

دعاء الكروان
بعد تأسيس الفنان الراحل لشركة «أفلام فريد الأطرش»»، قرر أن ينتج لنفسه عملاً فنياً مميزاً يكون فاتحة إنتاجه، فاتجه إلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وطلب منه إنتاج تحفته «دعاء الكروان»، في فيلم سينمائي.
وقد استجاب لطلبه وسمح له بذلك بعدما وثق في الاستعدادات الكبيرة التي ستبذل لظهور قصته بالمظهر اللائق بهذا العمل الفني الجديد، وأخذ الأطرش، يواصل العمل ليل نهار لاتحاد الوسائل المتعلقة بإنتاج عمل ضخم جدير بأول عمل سينمائي لأفلام فريد الأطرش.
ولكي يكون الفيلم بالشكل الذي يتمناه، قام ببيع مزرعة الخيل الخاصة به، وسيارته واقترض أموالاً من بعض أصدقائه.
ويعد هذا الفيلم من بين أفضل الأفلام التي قدمتها السينما المصرية وجاء في الترتيب السادس في قائمة أفضل عشرة أفلام في تاريخ هذه السينما، وذلك في الاستفتاء الذي أجرته مجلة «فنون» المصرية عام 1984. وقد عرض الفيلم لأول مرة عام 1959، واختير لتمثيل السينما المصرية في مهرجان «برلين» الدولي.

نكتة الأطرش
في عام 1970 كان الفنان السوري قد ضاق بالإقامة في الفنادق، وخصوصاً بعد أن قرر إطالة إقامته في بيروت، فأستأجر شقة كبيرة في عمارة أنيقة بمحلة «اللويزة»، التي لا تبعد عن قلب العاصمة أكثر من خمس دقائق بالسيارة، وقد زينها بالمفروشات والتحف الثمينة.
وفي هذه الشقة بالذات كان يقضي الراحل الأطرش، أطول أوقاته، ويقيم فيها كل حفلاته، وأحياناً كان يستغلها في تصوير المشاهد الداخلية في أفلامه، أو يجري فيها البروفات على أغانيه الجديدة.
الأطرش قال حينها لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة أنه سيكون في منتهى السعادة بأن يدشن شقته ويبدأ حياته الاجتماعية فيها بحفلة كبرى يقيمها على شرفها وخاصة أن وجهها كان خيراً عليه في فيلم «الحب الكبير»، الذي حقق نجاحاً شعبياً يفوق الوصف، كما در عليه أرباحاً جيدة لا تقل عن الأرباح التي آلت إليه في جميع أفلامه السابقة.
وقبلت حمامة الدعوة إلى الحفلة، وكان فريد ليلتها شعلة من المرح والحيوية، وبلغ القمة في خفة الدم، فروى لمدعويه أكثر من نكتة، واستلقت حمامة على ظهرها من شدة الضحك، عندما روى لها نكتة عن نفسه!.
فقال: إن أحد المعجبين كان يتصل به باستمرار، ويطلب إليه أن يكلمه، فتجيبه الشغالة: والله الأستاذ مش قادر يكلمك.. لأنه في الحمام!، وعندما تكررت اتصالات المعجب، وفي كل مرة يتلقى الجواب نفسه، صرخ: هو الأستاذ وسخ للدرجة دي علشان يبقى في الحمام!.
وعلق على النكتة، واعترف للساهرين بأنه عندما يدخل الحمام لا يغسل جسده بالماء، بل بالسبيرتو فقط، وقال: وتفضلوا شوفوا أنا نضيف إزاي!.

توقف قلبه
توقف قلب فريد ثلاث مرات قبل وفاته، لكن الأطباء في الولايات المتحدة الأميركية ساعدوه مرة أخرى في العودة للنبض، وفي عام 1974 ضاع المصحف الذي كان دائماً يضعه في جيبه، وبعد أن بحث عنه في جميع أرجاء منزله وتأكده أنه قد ضاع، قابل الفنانة سامية جمال وقال لها: «أنا متشائم جداً السنة دي وحاسس إني هاموت علشان المصحف ضاع»، وبالفعل توفي فريد في ذات العام عن عمر ناهز الـ64 سنة.

مقتطفات
أول أجر تقضاه الأطرش نحو 150 قرشاً نظير عشر دقائق من العزف على العود المنفرد في الإذاعة.
كان من أكثر الفنانين حرصاً على إقامة احتفال كبير بعيد رأس السنة في منزله وكان يحضر الحفلة أكثر من مئة فنان وفنانة وشخصيات كبيرة.
كان يخشى من رؤية الدراجات في الطريق.
أكبر أجر تقضاه كان 12 ألف جنيه نظير قيامه ببطولة فيلم (شهر عسل) عام 1945.
أول من استخدم فن الأوبريت في السينما العربية وصاحب أول ديوتو.
حائز جائزة أعظم عازف عود في العالم من تركيا عام 1962م.
أول من أدخل الموسيقا الطويلة متجسدة في أغنية «حبيب العمر» وأول من أدخل الألوان الغنائية الغربية كالرومبا أو السامبا والفالس.
الفنان العربي الوحيد المسجل في قائمة الفنانين الخالدين (الموسوعة الفرنسية الانسيكلوبيدي).
الوحيد حتى الآن الذي حصل على أكثر من 20 وساماً وقلادة من مختلف الدول العربية والعالمية منها ميدالية الخلود من فرنسا 1965م، ووسام الاستحقاق من الرئيس جمال عبد الناصر.
أول من أدخل الآلات الموسيقية الغربية كالأورغ والغيتار إلى الموسيقا العربية.
عند خبر وفاته قطع التلفزيون الانكليزي برامجه ليعلن خبر رحيله وقدم برنامجاً فورياً عنه لمدة نصف ساعة ضم حديثاً مصوراً معه وبعضاً من أعماله التي ارتقت إلى العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن