ثقافة وفن

الفن المعماري ودلالات الحضارة السورية … قاعات غاية في الفن وخطوط للزمن وزخارف تمثل قمة الإبداع السوري

| نبيل تللو

عبَّرت الشعوب عن نفسها -في الفترات التاريخية المختلفة- من خلال نشاطاتها الحضارية في الفنون والآداب والعلوم بمختلف أنواعها، غير أن الفن المعماري يبقى من أغنى الدلالات على تقدم الشعوب ورقيها. وإذا كانت الحضارة هي نتاج شعب، في مختلف مجالات الحياة، فإن الفن المعماري تجسيدٌ لكلِّ المفاهيم، واختزالٌ للقيم والمعتقدات والثقافات الخاصة بأي حضارة.
في هذه المقالة سوف نتعرف على أحد المباني التاريخية بدمشق، الذي يدلُّ على فنٍّ معماري محلي ومتميِّز، صُمِّم وشُيِّدَ بأيدٍ محلية، والذي ما يزال ينبض بالحياة منذ ثمانين عاماً، وهو مبنى مؤسسة مياه عين الفيجة، راجياً أن يتذكر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.

تكمن أهمية بناء مؤسسة مياه عين الفيجة، الذي بني بين عامي 1937-1942، وأُلحق به حديثاً إلى الشرق منه مبنيان إضافيان نتيجة توسع الأعمال، وتشغله حالياً «مؤسسة مياه الشرب والصرف الصحي في محافظة دمشق»، في أنه من أوائل الأبنية التي صُمِّمت ونُفِّذت بأيدٍ عربية سورية، فالمصمم المعماري هو المهندس عبد الرزاق ملص، الذي وضع مخططات البناء ونفَّذه، والصانع المبدع في التفاصيل الزخرفية الخارجية والداخلية هو الفنان محمد علي الخياط، الذي كان يُعرف بـ: «أبو سليمان»، فضلاً عن أن المؤسسين للمشروع هم مجموعة من الوطنيين المخلصين على رأسهم السيد «لطفي الحفَّار» الذي صار رئيساً لمجلس الوزراء السوري فيما بعد، فكان البناء متميزاً في طرازه، وأعطى مثالاً على فنٍّ معماري محلي أصيل أظهر التأثيرات الثقافية والاجتماعية والعمرانية المختلفة في تاريخ إنشائه، وأظهر بوضوح عملية المزج بين التراث والمعاصرة، ويُعَدُّ من أولى المحاولات في إيجاد بدائل للبناء التقليدي اعتماداً على تقانات البناء الحديث، ما أدى فيما بعد إلى تطور الطرز المحلية، وصار حلقةً في سلسلة الأبنية التي بُنيت في ثلاثينيات القرن العشرين كمبنى المجلس النيابي ومدرسة التجهيز.
في أوائل القرن العشرين قام الوالي العثماني ناظم باشا بجرِّ مياه عين الفيجة إلى دمشق عبر قساطل معدنية، وأقام أربعمئة سبيل في مختلف الأحياء السكنية لـتأمين مياه الشرب النقية للسكان، وتصل المياه إليها من خزانين بُنيا في سفح جبل قاسيون يضخان الماء بمعدَّل ساعتين يومياً في الصباح وساعتين في المساء. وبين عامي 1922-1932 جرى تنفيذ مشروع متكامل لجرِّ مياه الفيجة لدمشق، بإشراف عددٍ من رجالات دمشق، وكان لا بُدَّ من إشادة مبنى ليكون حاضناً للجنة مياه عين الفيجة.

ارتكز مبنى لجنة مياه عين الفيجة على نظام البناء العثماني، واستمد بعض بنوده من نظام البناء الفرنسي، حيث كانت سورية قد خرجت في تلك الفترة من الاحتلال العثماني، لتدخل تحت الانتداب الفرنسي. شُيِّد المبنى على رقعة العقار رقم 1370 الواقع غربي شارع النصر وسط دمشق، إلى الشرق من ساحة محطة الحجاز للقطار، متوسطاً بين جامع المولوية من الجهة الغربية، وجامع تنكز من الجهة الشرقية. وأظهرت الوثائق الخاصة بالبناء المؤلفة من رخصة البناء والمخطَّط المصدَّق من الدائرة الفنية لمحافظة مدينة دمشق الممتازة، ومخطط تصحيح الأوصاف للبناء في عام 1940، المساحة الفعلية للبناء والوجائب المحيطة، وراوحت أبعاد البناء الكلية بين 21م على طول الواجهتين الأمامية والخلفية، و23م على طول كلٍّ من الواجهتين الشرقية والغربية للبناء، متَّخِذاً شكلاً مربعاً تقريباً، على حين بلغت أبعاد الوجيبة 28 م طولاً، وعرضاً 10م.
إذا وقفنا أمام المبنى على بعدٍ معقول، نشعر للوهلة الأولى أنَّنا أمام بناءٍ مهيب، له تقاسيم وملامح البناء العربي الأصيل، الجبهة والقلب والجناحان كلُّ ذلك متكافئ، وهو مختومٌ في الأعلى بطنفٍ متوَّج بزخارف مسننة رشيقة متماثلة ومتناظرة ومتساوية، الألوان متناسبة ومتسقة وتميل إلى الرشاقة والزهو.
يتكوَّن المبنى من طابقٍ أرضي يرتفع عشر درجات عن مستوى الرصيف الخارجي للبناء وتوصل إلى المدخل الرئيسي للمبنى، ويفصل بين الدرجتين الخامسة والسادسة فسحة. ينفتح باب الدخول على بهوٍ عام واسع تتوزع على جوانبه غرفٌ صغيرة تُستخدم مكاتب، وأعمدة دائرية، ويحيط به رواقٌ علوي بارز مطل على البهو، وطابقٌ ثانٍ يعلوه سقفٌ عالٍ مصنوع من الخشب والزجاج، ويتخلل النور من نوافذ جانبية ترسل الضوء بشكلٍ متكسِّر ومتدرج إلى الأسفل عبر سورٍ مشبكَّ. وتتميَّز القاعة الرئيسية، وهي قاعة لجنة عين الفيجة، بغنى زخارفها ورشاقتها وجمالها، وأمامها تحفة فنية تُعَدُّ آيةً في فنِّ الترخيم والتجذيع، وهي فسقيةٌ لطيفة تحيط بها حصيرةٌ من الرخام المجذَّع قوامها أشكالٌ هندسية ونجوم وخيوط تتشابك فتؤلف لوحة ملونة رائعة.

هذا هو الوصف العام لمبنى مؤسسة مياه عين الفيجة، غير أن أكثر ما يلفت النظر فيه هو استخدام العناصر الفنية من حقبٍ زمنية مختلفة بشكلٍ يتلاءم والذوق الفني، فإطار باب القاعة الرئيسية في الطابق الثاني من الفن الكلاسيكي أو البيزنطي، وهو مقتبس من باب قصر الحير الغربي المعاد إنشاؤه في المتحف الوطني بدمشق. ويعتمد سور الطبقة العليا على الفن العباسي والفاطمي، وزيد عليه مستحدثات الفن المملوكي بالتطعيم والترصيع. واستخدمت أشكالٌ نجمية في السقوف والأبواب مقتبسة من الفن العربي في العهد الأيوبي. الخيوط الزخرفية والألواح الرخامية المجذَّعة في الواجهة الخارجية مستمدة من فن العهد المملوكي. البوابة الكبرى الخارجية متأثرة بفن العهدين الأيوبي والمملوكي. مجموعة النوافذ الثلاث لها أمثالها في الفن الأندلسي والمغربي. وهناك الفسقيات المستمدة من الفن العربي منذ العهد الأيوبي والمملوكي حتى أواخر العهد العثماني، وهو فنٌّ عربي أصيل ازدهر خاصةً ببلاد الشام.
وممَّا يلفت النظر في المبنى اللوحات العديدة المكتوبة بالخط الثلث والكوفي، وتتضمَّن آياتٍ قرآنية مثل: «أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون». وعباراتٍ جميلة ولافتات إرشادية، ومنها لوحة مستطيلة فوق الباب الرئيسي كُتِبَ عليها «لجنة مياه عين الفيجة»، على يمينها كُتِب: «أسست عام 1343 هجرية»، وعلى يسارها «سنة 1924 ميلادية»، وكل اللوحات كتبها الخطاط الشهير «بدوي الديراني».
ختاماً أقول: بوركت أيدي السوريين التي بنت هذا الصرح المعماري المميَّز، وبوركت جهودهم التي حافظت عليه سنواتٍ طويلة، حتى إن أقلَّ ما يوصف به هو أنه كلمَّا ازداد عمراً، ازداد شباباً وريعاناً، وكلما مرت عليه السنوات، تألقَ وتوهَّجَ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن